الصعود الصيني ليس وليد اللحظة الراهنة، والذي يقترن بـ"لمعان" نجمها على الساحة الدولية، لتصبح مؤهلة للقيام بدور أكبر، من شأنه مزاحمة حالة الهيمنة الأمريكية السائدة منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث بدأت إرهاصاته منذ عقود طويلة، بينما تجلى طموح بكين تدريجيا مع بداية الألفية الثالثة، في ظل قوتها الاقتصاديى، إلى الحد الذي تجاوزت فيه الولايات المتحدة، مما يؤهلها لعقد تحالفاتها مع العديد من دول العالم في مختلف الأقاليم الجغرافية، باستقلالية واضحة، عن توجهات القوى الحاكمة في النظام العالمي، من منطلق تجاري، تطور مع مرور السنوات إلى دعم سياسي، ربما غير مباشر، في البداية، للدول التي طالما وصمها الغرب بـ"المروق"، ليصبح "التنين" بمثابة تهديد يتنامى للحالة الدولية بصورتها الأحادية، جراء قدرتها على الصمود أولا، ثم مساعدة قطاع كبير من الدول الأخرى، على مواصلة التحدي، في مواجهة الإملاءات.
ولكن على الرغم من بزوغ نجمها على الساحة العالمية، أبت بكين أن يقترن اسمها بدول العالم المتقدم، بل كانت حريصة كل الحرص على توصيف نفسها بـ"الدولة النامية"، ربما للاستفادة من المزايا الممنوحة لهم، من قبل العديد من التنظيمات الدولية، بالإضافة إلى تحقيق قدر أكبر من المناورة، فيما يتعلق بالعديد من الإجراءات، فيما يتعلق بالقيود المرتبطة بتدفق السلع والخدمات في التجارة الدولية والحصول على القروض من المنظمات الاقتصادية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين، ناهيك عن الاحتفاظ لعمليتها بقيمة أقل من قيمتها الحقيقية، مما يساهم في اقتحام مختلف الأسواق العالمية، إلا أن الأمور، في الرؤية الصينية، تجاوزت الاقتصاد والمزايا المرتبطة به، والتي يمنحها العالم للدول النامية، في ظل المعركة التي تخوضها مع دول العالم المتقدم.
رؤية الصين، في واقع الأمر، اعتمدت على الحصول على الشرعية الدولية، عبر اكتساب تعاطف معسكر الدول التي عانت جراء تجريف مواردها، من قبل العالم المتقدم، وهو ما بدت إرهاصاته، مع انطلاق الحديث عن قضية التغيرات المناخية، مع السنوات الأولى للألفية، حيث تبنت رؤية دفاعية عن حقوق الدول النامية في تحقيق التنمية الاقتصادية، وهو بالطبع ما يجد تبريره في الدفاع عن نفسها، في ظل استخدامها المتزايد للفحم، خلال تلك الفترة، بينما تمسكت بموقفها رغم قدرتها الكبيرة على مواكبة القوى الكبرى، وربما التفوق عليها في استخدام الطاقة المتجددة، وتخفيض انبعاثات الكربون، بصورة كبيرة، خلال زمن قياسي، وهو ما يعكس أن الموقف الصيني يتجاوز في جوهره تحقيق المصالح "القريبة"، وإنما يحمل في طياته أهدافا بعيدة المدى.
وبالنظر إلى مواقف بكين، جنبا إلى جنب مع طموحاتها الكبيرة على الساحة الدولية، ربما نلمس إدراكا من قبل الإدارة الحاكمة، لأحد الجوانب البارزة في الصراع الدولي الجديد، الذي بات يتجاوز الأيديولوجيات، على غرار حقبة الحرب الباردة، أو التوسع، كما كان عليه الحال إبان الحقبة الاستعمارية، أو حتى صراع الحضارات، الذي طفا على السطح في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وإن كانت تلك الأبعاد مازالت تلوح في الأفق، إلا أن جوهر الصراع سيتحول إلى ما يشبه "الطبقية"، بين الأغنياء والفقراء من دول العالم، وبالتالي فقد اختارت أن تكون محسوبة على معسكر "الفقراء"، باعتبارها القوى المؤهلة للقيادة، والتي ستحظى بقبولهم، في ظل مواقفها المدافعة عنهم، ومناطحة منافسيها الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، والتي مازالت تحتفظ بقيادة العالم المتقدم، رغم اهتزاز الثقة بها، خاصة بين دول أوروبا الغربية، جراء التغييرات الكبيرة في المواقف التي تبنتها واشنطن تجاههم في السنوات الأخيرة.
ولعل الحرص الصيني على تقديم نفسها كشريك حقيقي للعديد من الدول في مختلف المناطق الجغرافية، انطلاقا من أفريقيا، مرورا بالمنطقة العربية، وحتى دول أمريكا اللاتينية، مع تعزيز تعاونها مع العديد من القوى في محيطها الجغرافي، يمثل ترجمة حقيقية، للرؤية التي تتبناها بكين، حيث تتعامل معهم انطلاقا من مفهوم "الشراكة"، القائم على التعاون وتحقيق المصالح المتبادلة، على أساس علاقة "الند بالند" وليس من المنطلق الذي تبنته الولايات المتحدة، القائم على الدعم المطلق للحلفاء، مقابل الدوران في فلكها، وهو ما قدم ميزة إضافية لـ"التنين"، في ضوء الاتفاق على مبادئ تقوم أساسا على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وعدم فرض إملاءات على شركائها فيما يتعلق بمواقفهم، وهو ما يعزز دورها أمامهم إلى الحد الذي يمكنهم الاعتماد عليها في الدفاع عن حقوقهم في المحافل الدولية.
وتمثل القيادة من منطلق "النماء"، محلا للتنافس بين الصين وقوى أخرى، ربما أبرزها الهند، والتي تمثل منافسا إقليميا مهما لبكين، حيث تحرص هي الأخرى على تعزيز علاقاتها بالدول "النامية"، بل وحريصة كذلك على اعتبار نفسها جزء منها، على نفس النهج الذي تتبناه الصين، في ظل رغبتها الملحة، في توسيع نطاق علاقاتها جغرافيا، لأهداف تتعلق بالتجارة والاقتصاد، ناهيك عن تعزيز النفوذ السياسي، خاصة وأن نيودلهي لا ترغب في ترك الساحة خالية في هذا الفضاء للقوى التي تراها في خانة "الخصوم" الدوليين، وهو الدور الذي يلقى قبولا من منافسي الصين الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وعدد من حلفائها في أوروبا الغربية.
وهنا يمكننا القول بأن مفهوم "الدولة النامية"، يمثل رهانا صينيا بامتياز، بينما تسعى الهند إلى منافستها في هذا الإطار، وهو ما لا يقتصر في جوهره على الحصول على المزايا، وإنما يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك في ظل الحاجة الملحة لحشد التأييد بين عدد كبير من دول العالم، في صراعها، أو بالأحرى حالة التنافس، مع الولايات المتحدة، خاصة مع بزوغ الخلافات المباشرة، بصورة كبيرة مع الدول المتقدمة، في العديد من القضايا المرتبطة بالمناخ والتنمية، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية المترتبة على الأزمات الراهنة، وفي القلب منها الأزمة الأوكرانية، وهي القضايا التي يتحمل العالم المتقدم مسؤوليتها بالكامل، وبالتالي تتزايد حدة الخلاف، وفجوة الاختلاف على أساس من الطبقية الدولية في المرحلة المقبلة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة