في الوقت الذي تحركت فيه الدولة المصرية نحو "خروج آمن" من الحالة الثورية، بدت واضحة، في العديد من الجوانب، كانت الحاجة ملحة للاحتفاظ بقدر من "الثورة" العقلانية فيما يتعلق بالمجال الاقتصادي، وذلك في إطار استغلال "حماسة" الملايين الذين خرجوا في 30 يونيو، لاستعادة دولتهم، من براثن الإرهاب والتطرف، وتوجيهها نحو "إعادة البناء"، بينما حملت على عاتقها في الوقت نفسه جوانب أخرى، لا تقل أهمية، وعلى رأسها مجاراة الواقع العالمي، ومتطلبات المرحلة، ناهيك عن إعادة صياغة العديد من المفاهيم السائدة التي سيطرت على العقلية الجمعية في المجتمع المصري، وهيكلتها من جديد، بحيث تخدم الأجندة التنموية، وتحويلها من مجرد أرقام "صماء"، طالما استخدمها القائمين على السلطة لعقود، في إطار ترويجي بحت، إلى واقع يمكن ترجمته في حياة المواطنين.
والمتابع للنهج المصري فيما يتعلق بالملف الاقتصادي، منذ 30 يونيو، يجد أن ثمة انطلاقا من الحالة "الثورية"، تجسدت بوضوح في التركيز على العديد من المسارات، أولها الإنجاز، عبر تدشين مشروعات عملاقة، وغير مسبوقة، بينما كان المسار الأخر، هو الزمن، عبر إنهائها في زمن قياسي، وهو ما يتواكب مع "روح الثورة"، بينما عززت هذين المسارين، عبر إضفاء أبعاد أخرى تدريجيا، أهمها الاستدامة، عبر مراعاة الأبعاد البيئية، والجغرافية، والمجتمعية، في المشروعات التي أطلقتها الدولة المصرية، والتي من شأنها جذب المزيد من الاستثمارات، وتعزيز الثقة الدولية في المناخ الاقتصادي المصري، جنبا إلى جنب مع تنويع القطاعات الاقتصادية، التي يمكنها تحقيق طفرة تنموية، بين البنية الأساسية والزراعة والصناعة والسياحة وغيرها، وذلك بعد سنوات من التجريف التي طالت الكثير منها.
فلو نظرنا إلى مشروع "قناة السويس الجديدة"، والذي كان بمثابة "باكورة" المشروعات التي أطلقتها الدولة المصرية، في عهد "الجمهورية الجديدة"، نجد أنه بمثابة ترجمة صريحة، لعاملي الإنجاز، باعتباره مشروع عملاق من شأنه تعظيم الاستفادة من الشريان الحيوي، والزمن، في ظل إنجازه في زمن قياسي لا يتجاوز العام الواحد، وهو ما يمثل استلهاما صريحا لـ"روح الثورة" المصرية، وحماسة المصريين في أعقاب 30 يونيو، وهو ما يهدف في الأساس إلى تقديم البرهان لملايين المواطنين، على قدرتهم على تحقيق الإنجازات العملاقة، ليكون المشروع الذي تحقق بأيديهم وقودا لسلسلة طويلة المدى من الإنجازات، التي توسعت في أهدافها ومعاييرها لتكون مواكبة لمعطيات الواقع العالمي.
بينما كانت هناك أبعادا أخرى، في المراحل التالية، تجسدت في تعزيز أوضاع المحافظات المهمشة، والعمل على مد شرايين التنمية بها، وفي القلب منها صعيد مصر وسيناء، بينما حرصت على توسيع الرقعة الجغرافية للمحافظات عبر اقتحام الصحراء، بينما ارتكزت على تنويع مصادر التنمية، بين الزراعة، عبر إعادة الاعتبار للأراضي الزراعية وحمايتها من التجريف بعد سنوات من انتهاك حرمتها بالبناء عليها، والصناعة، من خلال افتتاح الكثير من المصانع، لتتعزز هذه القطاعات بشبكة قوية من الطرق استطاعت ربط الأقاليم الجغرافية ببعضها، وهو ما يساهم في تسهيل الاتصال والتواصل بين مختلف محافظات "المحروسة" وهو ما من شأنه تحقيق أكبر قدر من التكامل فيما بينها.
الالتزام بمعايير البيئة، يمثل هو الأخر أحد الأبعاد الهامة التي تعكس مواكبة "الجمهورية الجديدة" لمستجدات الواقع العالمي، في ظل ارتباط مفاهيم الاستدامة، باحترام البيئة، وحمايتها من التلوث، وهو ما يجد صداه في العديد المشروعات، ربما أبرزها مجمع "بنبان" في أسوان، والذي يمثل طفرة مهمة في توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، لتجنى الدولة المصرية ثمرة التزامها البيئي، باختيارها لاستضافة قمة المناخ الأخيرة، في شرم الشيخ، وهو ما يعزز دائرة التأثير المصري على المستوى الدولي، في ظل ما تحقق من اختراقات كبيرة خلاله، تمكنت من تحريك الركود المهيمن على كافة المفاوضات التي دارت في السنوات الماضية حول قضية التغير المناخي.
في حين لم تتغافل الدولة عن البعد الاجتماعي المرتبط بالملف الاقتصادي، عبر تقديم رؤية واقعية، من شأنها تحسين حياة الألاف ممن عانوا جراء حياة غير آدمية، عبر مبادرة "حياة كريمة"، وهو ما يمثل استجابة صريحة لأحد أهم مطالب المصريين في الميادين، بينما في الوقت نفسه أعادت هيكلة المفاهيم الاقتصادية السائدة عبر توجيهها إلى المسار الصحيح، وعلى رأسها مفهوم "الدعم"، والذي ارتبط لسنوات بتقديم السلع لملايين البشر مجانا، ليتحول نحو مستحقيه، عبر مسارين أولها نحو الفئات الأكثر فقرا، بينما يرتكز الثاني على المتفوقين والمبدعين، والذين يمكنهم تحقيق طفرة في مجال ما.
وهنا يمكننا القول بأن النهج المصري في التعامل مع الملف الاقتصادي في أعقاب 30 يونيو، اعتمد على توظيف دوافع المصريين ومطالبهم، التي نادوا بها في الميادين، وهو ما ساهم في الحصول على دعمهم، رغم التحديات التي واجهتهم، بينما تحركت في الوقت نفسه بما يتواكب مع الواقع والظروف العالمية، وهو ما يبدو بوضوح في تعزيز قدرتها على الصمود بعد سنوات قليلة في مواجهة أزمات صعبة، فشلت أعتى دول العالم في مواجهتها، على غرار الوباء، نتيجة السياسات الناجعة التي اتخذتها الدولة في هذا الإطار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة