أفرط نقدنا الأدبي الحديث في متابعة أعمال الراحلين من كبار الشعراء، وظل هذا الأمر مستمرًا حتى لحظتنا الحاضرة بعد أن مهد كبار النقاد في النصف الثاني من القرن العشرين سبل الوصول إلى عوالمهم الشعرية وتابعهم عدد كبير من الباحثين الأكاديميين الذين لا يملكون الحس النقدي والذوق المدرب القادر على الإضافة؛ لأن معظمهم يفتقد أصالة النظرة وموسوعية الثقافة الأدبية وجسارة السير في الطرق غير المعبدة؛ لذلك لم تعد استجابة النقد لدينا الآن بالسرعة اللازمة لمواكبة الحراك الشعري الراهن هنا والآن، وهي ظاهرة تضرب بجذورها إلى ما بعد جيل رواد شعر التفعيلة وجيلها الستيني، إذ تتجلى في إهمال أجيال شعرية كاملة لم تحظ بالمتابعة النقدية الكافية والدءوبة والعميقة في الوقت نفسه، بداية من جيل السبعينيات وحتى جيل الألفية الجديدة التي انصرم من قرنها الأول ثلاثة وعشرون عامًا.
لكن الظاهرة الآن أعمق فداحة وأكثر اتضاحًا، تتجلى في المفارقة الكبرى بين ضخامة الإبداع الشعري الذي تقذفه المطابع صباح مساء، وضآلة المنجز النقدي الموازي لذلك الصخب الشعري الذي يحتاج بالطبع إلى القراءة والانتقاء لتمييز الجيد من الرديء، ومن ثم الرهان على التجارب الواعدة التي قد تؤسس لمدارس شعرية جديدة تتجاوز التقسيمات الباهتة التي لا نكف عن ترديدها في كل نقاش شعري أو عراك نظري أجوف (عمودي - تفعيلة - قصيدة نثر).
يحتاج النقاد الآن - وما أبرئ نفسي- إلى جسارة التأمل ومغامرة الاقتحام والسعي لمعاينة المنجز الشعر ي ومواجهة عوالمه وفضاءاته وتجاربه ورؤاه وأساليبه والتخفف من وطأة الانخراط في لهاث نظري محموم مستورد من بيئات غربية تختلف عنا في الكثير من الهموم الإبداعية والتوجهات الفلسفية والتساؤلات المصيرية والتطلعات الإبداعية إذ يبدو لكل بيئة اجتماعية أدبية خصوصيات إبداعية وملامح أسلوبية قد تتفق في القليل مع البيئات الأخرى لكنها بكل تأكيد تختلف عنها في الكثير من التوجهات والرؤى والأساليب والتأملات الوجودية المشروطة بواقع حاضر، وزمان ومكان تاريخيين لهما أسئلتهما الضرورية الملحة لاسيما حين تواجه الجماعة الأدبية مأزق المصير، وتحاول أن تجتلي ملامح المستقبل القريب بعد أن تستبطن الحاضر الراهن وتستنهض ممكناته وتستبقي جذوره البعيدة بكل ما تحمله من خمائر الوجود وما تطلع إليه من ملامح الهوية المبتغاة في آن.
إن السؤال الملح الآن من أين يبدأ النقاد؟ وماذا يحتاجون لأداء دورهم المتراجع؟
أذكر أنني أنصت إلى الناقد الأدبي الكبير الدكتور مصطفى ناصف وهو يقول بصوته الجهير : "والشيخ الذي يريد لشبابه أن يتجدد ويمتد، عليه أن يبدأ من حيث انتهى الشباب!"
وليأذن لي أستاذي الناقد الكبير أن أوسع مجال عبارته التي كان يشير بها إلى شباب النقاد لتمتد إلى شباب الشعراء المبدعين أيضا وذلك يكون بالانخراط في تأمل منجزهم الإبداعي المتحقق بالفعل واجتلاء آفاقه الرؤيوية وهمومه الإبداعية وتيماته الأسلوبية وملامحه التشكيلية وأنماطه التصويرية مع أهمية أن يتسلح شباب النقادبمنهجية تقبل الجدل وحس فلسفي ناقد ووعي نظري منبثق من واقعنا الشعري وثقافة إنسانية متسعة بجانب الحس التذوقي المرهف الذي سينمو ويتعمق بكل تأكيد مع الممارسات القراءية الدءوبة بعيدا عن الضجيج النظري القادم من بعيد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة