حازم حسين

تنمية أفريقيا التزام لا منحة.. دعوة لتعليق الأجراس فى رقبة العالم

الخميس، 25 مايو 2023 12:27 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

عادت شرم الشيخ للواجهة بعد نحو سبعة أشهر من قمة المناخ "cop27"، مع استضافة الاجتماعات السنوية لبنك التنمية الأفريقى التى تحتضنها مصر للمرة الثالثة. فى نوفمبر تقدّمت قضايا البيئة والتنمية جدول أعمال طويل، لم تكن أفريقيا غائبة عنه مع إثارة الرئاسة المصرية للقمة قضاياها وما تعانيه جرّاء انفلات السياسات البيئية العالمية، وقصور آليات العمل والشراكة من أجل تقليص الآثار وتنشيط جهود التعافى. الجولة الجديدة كانت القارة بطلتها الوحيدة، لكن على أرضية المناخ أيضًا، عبر فتح ملف التمويل اللازم للمواجهة.

 

أثار الرئيس السيسى فى كلمته بالجلسة الافتتاحية، الثلاثاء، مسألة أعباء الأسواق الناشئة بفعل الأزمات الصحية والسياسية العالمية، وارتباك سلاسل الإمداد واستفحال موجة التضخم، وأثر ذلك على خُطط التنمية، بما يُضاعف حاجات التمويل ويفرض الوقوع على حلول غير تقليدية لضمان يُسره واستدامته. تحتاج القارة 200 مليار دولار سنويًّا للتنمية المُستدامة، و144 لتجاوز آثار كورونا، و108 للبنية التحتية، ومن تلك الأرقام دعا الرئيس إلى البحث عن أفكارٍ أعمق وهياكل مالية أكفأ، وتحسين شروط الاقتراض المُيسّر، وتحفيز المموّلين، سعيًا إلى خفض المخاطر والأعباء وتشجيع المؤسَّسات والتخفيف عن موازنات الدول. محافظ البنك المركزى حسن عبد الله أكّد الرؤية نفسها، ودعا إلى ابتكار آليات تدمج مستهدفات الاستقرار بالاستدامة، وتسد الفجوات المتنامية مع تراجع المساعدات وتضخم أعباء الديون وما نتج عنهما من تزايد الفقر وتباطؤ برامج الحماية الاجتماعية.

 

تتحرّك مصر صوب القارة بإيمان حقيقى بالروابط العميقة والمصالح المُشتركة، وتلعب أدوارًا مهمة فى كوميسا ونيباد وحوض النيل والاتحاد والبرلمان الأفريقيين واتفاقية التجارة الحرة وغيرها، فضلاً عن برامج ثنائية وأنشطة واسعة فى التدريب والتنمية وحفظ السلام، ورسائلها فى اجتماعات البنك تأكيد لدورها الرائد فى كل المحافل، سواء cop27 أو قبلها، وفى تيكاد و"UK-Africa" والقمم الأفريقية مع روسيا والصين وغيرهما؛ لكن لا قدرات القاهرة ولا رفاقها من الأسواق المحلية الكبرى قادرة على تعويض الاحتياجات الناقصة. رفع البنك رأس ماله قبل سنوات بنحو 123%، وتملك 26 دولة من خارج القارة بينها أغلب الاقتصادات المتقدمة وكل المحتلين القدامى وزنا نسبيا يفوق ثُلث التصويت، لكن ما تزال الأرقام وأدوار الشركاء أقل من المطلوب. وضعت أفريقيا قدرًا من أحلامها فى "أجندة 2063" وبعد 10 سنوات من إقرارها تظل الأوضاع على حالها، ووتيرة التحسن أبطأ من تنامى المشكلات.

 

تتخبّط أفريقيا داخل متاهة من الأزمات المتشابكة. سياسيًّا ما تزال تعانى آثار الاحتلال الطويل، وأمنيًّا تتخطّفها قوى داخلية وخارجية، واقتصاديًّا تقبع أدنى سُلّم التنمية. فى السابق جرى تصميم وهندسة البنية التحتية لإلحاق القارة بالمُحتلين، وانحصرت الغاية فى أغراض الاستنزاف. تلك الصيغة خنقت تراكم الفوائض المالية ورسّخت التبعية وحرمتها من تطوير أساليب العمل والإنتاج، فظلّت مصدرًا للمواد الأولية بأقل حدٍّ من القيمة المُضافة. تحقَّق الاستقلال السياسى لكن لم ينعكس على الاقتصاد، فانحصر إسناد الأسواق الكبرى لها فى أحاديث كثيفة عن الشراكة والتنمية والالتزام الأخلاقى، مقابل أفعال محدودة وإنجازات عملية قليلة الحجم والأثر، وما تزال المُعادلة مُختلةً بين: هيمنة واستنزاف مُباشرين، أو تمويلات مرتفعة التكلفة، بينما الواقع يفرض أن تتحوّل العلاقة إلى الاستثمار بدلاً من الإقراض، وضخ الأموال فى التنمية لا فى أدوات الدين، وإلى الإنتاج الحقيقى بدلاً عن تجريف الموارد والخامات

 

شقّ الأفارقة طريقًا مُبكّرًا نحو التكامل؛ إذ انطلقت الوحدة قبل 60 عامًا، وتبعها بعام بنك التنمية الأفريقى، لكن ما يزال العمل أقل من المأمول أو المُمكن. نسبة القارة لا تتجاوز 4% من ناتج العالم، ونحو 3% من التجارة لا تزيد الأنشطة البينية فيها على 7% فقط؛ لكنها تمضى بجسد ثقيل من الجغرافيا والبشر: 20% من اليابس ومثلها تقريبًا من السكان. ورغم امتلاك 30% من ثروات المعادن، و12% من احتياطى النفط، و42% من الذهب و50% من الألماس وثلثى الأراضى الزراعية غير المُستغلة؛ فإن نسبة الفقر 40% وقرابة 250 مليونا يعانون نقص المياه و281 مليونا تحت وطأة الجوع و600 مليون بلا كهرباء. وتواجه القارة منافسة غير متوازنة، وتخضع لأكلاف مُرهقة بالنظر إلى تصنيفها منطقة عالية المخاطر، ما يُخفّض جدواها ويصرف عنها المُستثمرين ويُجفّف التدفقات المالية المُباشرة. ينبع الخطر من ممارسات عدائية وافدة، ومن أطماع لا رغبة لدى القوى الكبرى فى التعالى عليها، والحل فى إعادة صياغة منظومة العلاقات الدولية، ومنح أفريقيا وغيرها من مناطق العالم المُهمّشة مزايا تفضيلية وفرصًا أكبر، وتجنيبها لعبة استقطابات المحاور والسباقات الخشنة على صدارة النظام العالمى.

 

خاضت القارة صراعًا مُضنيًا مع الاحتلال بعد تدافعٍ طويل بدأ 1880 وأفضى خلال أربع وثلاثين سنة إلى اقتسام كامل الجغرافيا بين ستة قوى كولونيالية: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا والبرتغال. تكلّفت أفريقيا على مدى قرن فاتورة باهظة فى الموارد والثروات والبشر، وفى تصدّعات البنية الاجتماعية والمساس بالهويّات الوطنية والسلم الأهلى. تضاعفت الكُلفة مع انطلاق مسيرة التحرر الوطنى التى بدأت بطيئة بجنوب أفريقيا ومصر، وتسارعت منذ ستينيات القرن العشرين إلى اكتمالها فى جيبوتى 1977، لكن الميراث الثقيل ظلّ حاضرًا فى نزاعات عرقية واختلال ثقافى ولغوى واغتراب عن التاريخ والذاكرة الوطنيتين، وقاد لفصل عنصرى وتوترات حدودية ونزاعات مُسلّحة، منها حرب أهلية طالت لـ1980 فى زيمبابوى، ثم انشقاقات داخلية فى جنوب أفريقيا وإثيوبيا والسودان أسفرت عن انفصال ناميبيا وإريتريا وجنوب السودان. وإلى الآن ما تزال قدم المُحتل تنتزع مواطئ فى مايوت بجزر القمر، وسبتة ومليلية بالمغرب، وجزر الكنارى بالمحيط الأطلسى، فضلاً عن نزاعات إقليمية فى الفشقة وأوجادين الصومالية، ودعوات انفصالية لا يغيب دعم الخارج عن بعضها: أمبازونيا بالكاميرون، بيوكو فى غينيا الاستوائية، وكازامانس بالسنغال، وغرب التوجو فى غانا، وبيافرا بنيجيريا، وكابيندا فى أنجولا وغيرها.

 

تعود التوترات فى جانب منها إلى الاقتصاد. صحيح أن الأمر يتصل بحالة التجانس والاندماج الوطنى، وصيغة الحكم، وأزمات الانتقال السياسى، وتوازنات فترة نضالات التحرر، وكلها تُرتّب مسؤوليات على المُحتلين السابقين؛ إلا أن الأمر لا يخلو من أبعاد تتصل باختلال موازين التنمية. تعرّضت أفريقيا للتجريف على مستويات، أقلّها النهب المباشر للموارد، وأشرسها نزح البشر عبر حركة استعباد طويلة، وقطع قنوات اتصال مجتمعاتها بالعالم؛ للإبقاء عليها خزّانًا من الاحتياجات الأوّلية للدول المُتقدّمة، ما ترك آثارًا مُرهقة على التعليم والصحة والتنمية وبناء الكوادر. امتدّت تلك الممارسات يُرافقها صعود لسرديّة التفوق الغربى وسيادة العالم الأول، وبالتحديد فرع القوقازيين الأبيض، مع ما يُقابل ذلك من نظرة استعلائية لجيرانه الجنوبيين الأكثر دونيّة وتخلُّفًا عن الركب. تحرّرت القارة نظريًّا؛ لكنها دُفعت إلى قنوات استغلال بديلة؛ إذ أُريد لها أن تظل فى موقع القابلية الدائمة للتوظيف فى خدمة المركزية "الأورو-أمريكية". الآن يتطلّب الأمر نظرة مُغايرة، لا بالإقرار والاعتذار والانسحاب فقط؛ إنما بالتعويض وتحمّل المسؤولية والاضطلاع بأعباء الإصلاح وترميم الآثار.

 

إدانة استنزاف أفريقيا والمتورطين فيه، لا تنفى مسؤولية القارة عن حصّة من وضعها، ولا دورها فى الخروج من النفق الحالك الذى سُجنت فيه طويلاً. حتى اللحظة ما تزال كثير من دولها عاجزة عن إرساء ركائز صالحة للحياة، ورسم خطط للتحديث، وجبر الضرر وسدّ الثقوب المُتسعة فى أثواب الحُكم وموازين السياسة والاجتماع. العجز عن قراءة الظرف وما يفرضه من التزامات، يتجلّى واضحًا فى انجرار نطاقات عديدة منها إلى نزاعات قديمة أو مُستحدثة، وإعادة فتح أبوابها مُجدّدًا لمن كانوا خصومًا، دون أن يُقدّموا برهانًا حقيقيًّا على تغيُّر رؤاهم ومواقفهم من الجغرافيا السمراء. اتّخذت كثير من التوترات المحلية أبعادًا فوق أهلية، مع تدخُّل قوى وأطراف خارجية على الخط، ولعبها أدوارًا مُباشرة فى إسناد طرف أو تقويض آخر، وفى الأخير لا تختلف كل الأدوار فى أثرها العام؛ إذ تُعطّل المسار وتُبقى حالة العوز وافتقار البدائل الواقعية القادرة على تأمين العبور.. مشهد الأصابع العابرة لبرواز القارة يبدو واضحًا فى ليبيا والسودان شمالا، وفى وتشاد ومالى وصولاً إلى الساحل الغربى، وفى الوسط وجنوب الصحراء. لا يخلو نطاق تقريبًا من مُعادلة مُنحرفة، تتأخر فيها الدولة أمام العرق، أو تتراجع مُقتضيات التنمية لصالح استقرار حرج، أو تسقط التوازنات الاجتماعية فى امتحان المصالح الاقتصادية.

 

لا تستحق أفريقيا الفقر، وشُحّ الفرص رغم وفرة الإمكانات، كما لا تستحق أن تظل ساحة جانبية للصراع وتفريغ فائض التوتر بين الكبار فى نطاقات مأمونة لا تطال بلدانهم؛ لكننا إزاء واقع جاسم على صدورنا، ولا سبيل للانعتاق منه إلا باستيعاب أسبابه والتفتيش عن أنجع السبل لتحييد آثاره. قارتنا أرض الفرص للجميع، لكن يجب أن يُنظر إليها من منظار الاستثمار والرخاء، لا كفرصة اختبار نفوذ وعضّ أصابع. الانزواء الأوروبى والانسحاب الأمريكى تزايدت وتيرتهما بالسنوات الأخيرة، فتقدّمت روسيا والصين لملء المساحات المتاحة. الآن يصل "شدّ الحبل" مداه فى ليبيا والسودان وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى والساحل والصحراء وغيرها، قليل من آثاره تنموية وأغلبها تضعيف لمنسوب التوتر، ويتعيّن على تلك القوى العودة خطوة، من أجل مصلحة القارة، بل ومصالحها طويلة المدى أيضًا.

 

فُرضت على أفريقيا شروط تفوق طاقتها، وحُرمت أسباب المناورة والنجاة قسرًا وبإرادة مُتغطرسة من مراكز العالم قديمًا والآن، والجميع مدعوّون بالتزام حقيقى لاقتسام أنصبتهم من التركة وتعويض الضحايا والتكفير عن الخطايا، وليدة الاعتداء المباشر أو الإهمال والجفاء. لم تعد صيغة "المنحة الكريمة" صالحة للمشاوير المقبلة، وينبغى أن تُوضع الأمور فى نصابٍ صحيح، من حيث إن الشراكة مسؤولية مُباشرة بمنطق إنمائى لا ربحى، وإن كانت المنفعة المُتبادلة مدخلاً عقلانيًّا لاستدامتها؛ فلا يجب ربط الموقف تجاهها بمعادلة العوائد والأرباح. للقارة حقوق واجبة على كل الأطراف، كما من صالحهم أن تسلك طريق الرُّشد حتى لا تظل مُتّسعًا ساخنًا فى جسد العالم، يصهر فرصًا عظيمة للإنتاج والنمو، ويُطوّق الماء واليابس بحزام نارٍ من الهجرة واللجوء وتجارة الفوضى وتهديد ممرّات استراتيجية لا غنى لكل اللاعبين عنها.. يجب أن يتوقّف الاستثمار فى القلق، وأن ينقطع غطاء الدعم أو غضّ الطرف عن النزاعات العرقية وميليشيات الشرق والغرب. إذا كانت الصورة تُختزل الآن فى أوراسيا وصراع الناتو مع موسكو وبكين، فإن إزاحة الساحات الملتهبة نحو أفريقيا خطر لا يجب المغامرة به، والبطء فى وضعها على طريق التعافى والنمو خطيئة أكبر. القارة سمراء بالأصل والطبيعة؛ لكن سياسات العالم تجاهها لطّخت واقعها بالسواد، ولا يجب أن يُهدّى المستقبل مجانًا للقتامة بينما يمكن أن يكون ناصعًا. الظرف يقتضى تعليق الأجراس فى رقاب أصحابها، والصراخ فى أذن العالم بأن دوره المطلوب تجاه أفريقيا فرض لا نافلة، والتزام ينبع من دَين واجب السداد؛ وليس عطيّة أو مكرمة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة