أطراف عدة تشارك في الحوار الوطني، والذي انطلقت جلساته الافتتاحية الأسبوع الماضي، بين أحزاب سياسية ورموز المعارضة المصرية، من جانب، والعديد من الفئات المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني من جانب آخر، إلى جانب الحكومة من جانب ثالث، لنجد أنفسنا أمام ثلاث فئات، تتجسد في الساسة والمجتمع والحكومة، تتشارك على قدم المساواة في التمثيل، بعيدا عن أولويات الغلبة البرلمانية، أو الثقل والنفوذ السياسي، وهو ما يفتح مساحة أكبر من "الشراكة"، تساهم إلى حد كبير في الاستفادة من كافة الرؤى التي يمكن طرحها لتحقيق المصلحة الوطنية ومجابهة التحديات والأزمات الراهنة التي تبدو محدقة بالعالم بأسره في اللحظة الراهنة، في ظل تداعياتها المرتبطة بصورة مباشرة على المواطن.
ولكن بعيدا عن جدوى الحوار، في تحقيق المصلحة الوطنية ومواجهة الأزمات الراهنة، تبدو هناك أبعاد أخرى لا تقل أهمية، تتجسد فيما يمكننا تسميته بـ"بناء الديمقراطية"، عبر إرساء نهج يعتمد على مشاركة كافة الأطراف، ومنحهم الفرصة لتقديم أنفسهم للمجتمع، وبالتالي توسيع دائرة الاختيار أمام مساحة عريضة من الشعب، في المستقبل، وهو ما يمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ الحياة السياسية المصرية، عبر خلق حالة من الثقة بين المواطن المصري والكيانات الحزبية، والتي عانت لعقود طويلة من الزمن جراء انغماسها في صراعات لا طائل منها سوى مصالح شخصية ضيقة ومحدودة.
ولعل الحديث عن مسألة الديموقراطية، مثيرا للجدل بصورة كبيرة، في ظل نمطية التطبيق، والذي يعتمد في الأساس على أفكار تبدو "معلبة"، تقوم في الاساس على قواعد جامدة، وشعارات فضفاضة، على غرار التعددية الحزبية، وحرية الرأي والتعبير، وبالطبع احترام ما تؤول إليه نتائج الصناديق في الانتخابات، وهو ما أتى بثماره في الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، في ظل ما شهدته تلك المناطق من رواج اقتصادي وتنمية وشعور المواطن بالرفاهية، ناهيك عن الاستقرار داخل أقاليمهم الجغرافية، وابتعادهم عن دوائر الصراع بصورة مباشرة، حتى في ظل الحرب الباردة، والتي دارت بين المعسكرين الغربي والشرقي، في مناطق النفوذ، بعيدا عن المواجهة المباشرة، إلا أن تلك القواعد لم تحقق النتائج المرجوة في مناطق أخرى، ربما أبرزها في منطقة الشرق الأوسط، في ظل ما تعانيه الدول من أزمات سياسية واقتصادية، حالة الصراع الدائم سواء على النطاق الأهلي، داخل العديد من الدول، أو على المستوى البيني، في ظل الصراع بين العديد من القوى الرئيسية في الإقليم.
ارتباط الديمقراطية، بالمفهوم الغربي، بحالة الاستقرار السياسي والمجتمعي، تبدو بجلاء في الآونة الأخيرة، مع تواتر الأزمات الاقتصادية التي ضربت العديد من المجتمعات، خاصة في دول أوروبا الغربية، تزامنا مع دخول الصراع إلى مناطق تمثل عمقا إستراتيجيًا لها، لنجد أن المسار الديمقراطي التقليدي، الذي طالما اعتمدته تلك الدول، بات يعاني من حالة من الصدمة، جراء التوتر المجتمعي، في ظل احتجاجات تحمل مطالب بالانقلاب على نتائج الصناديق من جهة، وتحول العلاقة بين أطراف المعادلة السياسية في تلك الدول إلى ما يشبه معارك "تكسير العظام"، خاصة مع الصعود الكبير لتيارات اليمين المتطرف، والتي نحمل أجندات مناوئة لما ينظر إليه باعتباره "ثوابت"، من المنظور الغربي العام.
المعضلة الحقيقية التي واجهت الغرب، سواء فيما يتعلق بمحاولات تصدير نموذجها الديمقراطي للمناطق البعيدة جغرافيا، أو حتى في التعامل مع المتغيرات الراهنة في الداخل الأوروبي، أو حتى في الولايات المتحدة، تتجسد في غياب الآليات التي يمكن من خلالها إدارة العملية الديمقراطية في أوقات الأزمات، خاصة وأن الشواهد تؤكد أن ثمة تغييرات كبيرة، ليس فقط في ردود الأفعال الشعبية، والتي تصل إلى حد الفوضى المجتمعية، جراء أعمال العنف والشغب التي تشهدها العديد من المدن والعواصم الغربية، وإنما أيضا في العلاقة بين أطراف المعادلة السياسية، وهو ما يبدو في حالة الاستقطاب الكبير، الذي تشهده العديد من الدول ذات الطبيعة الديموقراطية.
وهنا تبدو أهمية "الحوار الوطني" في تقديم آلية دولية جديدة لـ"إدارة العملية الديمقراطية" في زمن الأزمات، عبر تحقيق حالة من الحوار، بعيدا عن التوازنات التي خلقتها صناديق الانتخاب، لتصبح كافة التيارات ممثلة بشكل عادل ومتساو، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة مفادها أن "الشعبية" التي تحظى بها الأحزاب باتت متغيرة وبوتيرة أسرع من الماضي، جراء العجز عن تحقيق اختراقات كبيرة فيما يتعلق بالأزمات الراهنة، وهو ما يعني الحاجة الملحة لمزيد من الشراكة، للاستفادة من كافة الرؤى، بعيدا عن الأيديولوجيات.
المشاركة المجتمعية في الحوار الوطني تبدو جانبا آخر لا يقل أهمية عن البعد السياسي، خاصة وأنه يمثل القطاع العريض من الشارع، وبالتالي يبقى وجوده مهما حتى يمكن تحقيق أكبر قدر من التوافق بين السياسة والمجتمع فيما يتعلق بالقضايا الشائكة والكيفية التي يمكن التعامل بها معها، وهو ما يساهم في تحقيق الاستقرار، عبر الوصول إلى التقارب بين الأطراف الثلاثة وهي المجتمع والأحزاب ودوائر صناعة القرار.
وهنا يمكننا القول بأن الحوار الوطني يتجاوز كونه طفرة في الداخل المصري، حيث يمثل نموذجا جديدا لتعضيد الحالة الديمقراطية، والتي تعاني كثيرا في زمن الأزمات، عبر استثمار كافة الرؤى ودمجها في "بوتقة" الوطن لتحقيق المصلحة الجمعية للمجتمع بأسره، بعيدا عن المصالح الشخصية والضيقة لفئات أو شخوص بعينهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة