تبدو القدرة على قيام القوى الدولية والإقليمية بدور "الوسيط"، بات مرهونًا بالعديد من المقومات، في ظل بزوغ حقبة دولية جديدة، لا تعتمد بأي حال من الأحوال، على الهيمنة الأحادية لقوى واحدة، والتي سادت العالم خلال العقود الماضية، مع صعود الأدوار التي تقوم بها دول أخرى يمكنها مزاحمة الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، وعلى رأسها الصين وروسيا، في الوقت الذي تتواتر فيه الأزمات، الممتدة زمنيا والمتمددة جغرافيا، والتي فشلت أعتى الدول في التعامل معها، على غرار الوباء، والأزمة الأوكرانية، ناهيك عن التغيرات المناخية، وما لهم من تداعيات كارثية على مستقبل العالم.
ولعل أهم المقومات التي باتت ينبغي أن تتوفر لدى القوى الدولية للقيام بدور الوسيط، هي الحيادية، والقدرة على الاحتفاظ بمسافة متساوية مع أطراف النزاع، ناهيك عن موقعها في المنظومة الدولية سياسيًا واقتصاديًا، بما يؤهلها لتقديم الضمانات الدولية، لعدم تكرار أو بزوغ أسباب الصراع مجددا، وهو ما يختلف عن طبيعة الدور في العقود الماضية، والتي شهدت محدودية في البدائل المتاحة، التي يمكنها القيام بمثل هذا الدور، وهو ما يفسر القبول بالوساطة الأمريكية في القضية الفلسطينية، رغم غياب عنصر الحيادية عن واشنطن، والتي طالما اتسمت مواقفها بالانحياز الصارخ لإسرائيل، بالإضافة إلى تهيئة منطقة الصراع نفسها لقبول دور الوساطة، خاصة لو كان الوسيط من خارج الدائرة التقليدية للتحالفات التي اعتمدتها منذ سنوات، خاصة إذا كان الحلفاء لم يعودوا مؤهلين للقيام بهذا الدور.
فلو نظرنا إلى الوساطة الصينية الأخيرة، بين المملكة العربية السعودية وإيران، ربما نجد أنها تمثل نقطة فارقة في منطقة الشرق الأوسط، في ظل تعزيز منهج "التعددية" في التحالفات، ليس فقط على مستوى الدول، وإنما على مستوى الإقليم في صورته الجمعية، بعد سنوات من الاعتماد على حليف واحد، وهو ما يفتح آفاقا أوسع لتقديم حلول جذرية للأزمات والصراعات طويلة الامد التي عاشتها المنطقة لسنوات، ناهيك عن كونها مؤشرا جديدا، لنهاية زمن الهيمنة الأحادية على المستوى الدولي، في ظل قدرة بكين على تحقيق ما عجزت عنه القوى الدولية الكبرى لعقود طويلة، في انعكاس صريح للتأثير الذي باتت تحظى به، جراء حالة الثقة الدولية التي تتمتع به من قبل أطراف الأزمة، والقوى الإقليمية الفاعلة في المنطقة، فيما يتعلق بتقديم الضمانات المرتبطة بسد "نقاط الضعف" التي من شأنها إحياء الصراع مجددًا.
إلا أن منطقة الشرق الأوسط ربما لا تمثل الهدف النهائي لبكين، رغم أهميتها البالغة، خاصة وأنها لم تعد أكثر مناطق العالم اشتعالًا كما كان عليه الحال قبل سنوات قليلة، حيث تحولت "بوصلة" الصراع نحو أوروبا، مع تصاعد الأزمة الأوكرانية، والتي باتت التهديد الأكبر الذي يواجه العالم في اللحظة الراهنة، في ظل تداعياته الكبيرة، والتي ترتبط في جزء كبير منها بحياة الشعوب هنا أو هناك، جراء التهديدات التي تمثلها العديد من القطاعات الحيوية، على غرار أمن الغذاء وأمن الطاقة، ليصبح نجاح وساطة الصين في الشرق الأوسط، رغم أهميته الكبيرة على المستوى الإقليمي، مجرد محاولة من بكين لتقديم نفسها كـ"وسيط"، في الصراع الأكبر، والذي يمثل أولوية قصوى، والمرتبط بروسيا والغرب، وهو الدور الذي سبق وأن أعربت بكين عن رغبتها في القيام به في مناسبات عديدة سابقة.
وهنا تثور التساؤلات حول ما إذا كانت بكين لديها المقومات (الحيادية والضمانات) بالإضافة إلى تهيئة البيئة القائمة على تنويع التحالفات، التي تؤهلها للقيام بهذا الدور، فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، رغم العراقيل التي تواجهها، جراء المنافسة الشرسة مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى حالة الارتباك التي تشهدها أوروبا في المرحلة الراهنة نتيجة الانقسام الصارخ في المواقف، سواء تجاه العقوبات المفروضة على موسكو، أو القيادة الأمريكية، وحتى تجاه الناتو والاتحاد الاوروبي.
في الواقع، تبدو محاولات بكين للدخول على خط الوساطة في الأزمة الأوكرانية، محلا للسهام الأمريكية، والتي ترتكز في جوهرها على عنصر "الحيادية"، والذي يبدو أبرز أوراق نجاح دورها الأخير في الشرق الأوسط، في ظل علاقتها القوية مع روسيا، رغم مواقفها التي اتسمت بالاعتدال منذ بداية الأزمة، والتي قامت في الأساس على ضرورة تقديم الضمانات الأمنية لروسيا، في الوقت الذي شددت فيه على احترام سيادة الدول واستقلالها، وهو ما يمثل التحدي الأبرز في هذا الإطار، خاصة بعدما فشلت محاولات فك الارتباط بين موسكو وبكين، منذ اللقاءات التي جمعت مسؤولين أمريكيين مع نظرائهم الصينيين، في الأشهر الماضية، بدءً من اجتماع الرئيس الأمريكي جو بايدن مع نظيره الصين شي جين بينج في نوفمبر الماضي.
ولكن ببقى تراجع ثقة أوروبا في القيادة الأمريكية فرصة مهمة لبكين، في ظل قدرتها على سد الفراغ الناجم عن غياب الدعم المقدم من واشنطن تجاه الحلفاء في القارة العجوز، سواءً اقتصاديًا أو تجاريًا، ناهيك عن الدعم السياسي، بعيدا عن مفهوم القيادة التقليدية التي سادت نهج التحالفات القديمة، عبر تحقيق أكبر قدر من الشراكة، في مختلف المجالات، ليصبح حل الأزمة من داخل الإقليم، بوساطة صينية، يمكنها تقريب وجهات النظر بين شرق القارة وغربها، ليصبح التحدي الرئيسي لبكين هو إخراج واشنطن من معادلة الصراع القائم في أوكرانيا، على غرار ما شهده الشرق الأوسط في السنوات الماضية، مما سهل من مهمة الصين في تحقيق الاتفاق السعودي الايراني، خاصة مع التقلبات في المواقف الأمريكية، منذ الاتفاق النووي الإيراني، والذي تم توقيعه في 2015، والذي ساهم في تراجع ثقة حلفاء واشنطن في المنطقة، وخلق حالة من الفراغ ساهم في وجود قوى جديدة يمكنها القيام بدور أكبر في أزماتها، على غرار الدور الروسي في سوريا، ومؤخرا الدور الصيني، أو على الاقل الحصول على "شرعية" إقليمية قارية من قبل أوروبا للقيام بهذا الدور جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة، وهو الخيار الأرجح، على الأقل على نطاق زمني قريب أو متوسط.
وهنا يمكننا القول بأن الدور الصيني في الشرق الأوسط يمثل خطوة مهمة لبكين نحو تغيير خريطة القيادة الدولية، ولكن مازال أمام بكين تحديات كبرى، تتمثل في قدرتها على الحصول على "شرعية" إقليمية أوروبية للقيام بدور في الأزمة الأوكرانية، من شأنه انهاء حالة الهيمنة الأمريكية على المعسكر الغربي في المرحلة المقبلة، عبر تهيئة البيئة الأوروبية لقبول بأدوار جديدة من قوى غير تقليدية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة