مع اندلاع الحرب "الروسية-الأوكرانية" قبل نحو عام، لاحت في الأفق أزمة خطيرة أقضت مضاجع الأوروبيين، تتعلق بضمان استمرارية إمدادات الطاقة الروسية لأوروبا، وذلك لصلتها المباشرة بالتدفئة في فصل الشتاء القارس.
ومن رحم هذه الأزمة، بزغ قطاع النفط والغاز في النرويج كبديل وطوق نجاة للأوروبيين لتخفيف تداعيات أزمة الطاقة (المرتبطة بالحرب الروسية الأوكرانية) على القارة العجوز، حيث تشير التوقعات إلى ارتفاع إنتاج النفط النرويجي بنسبة 6.9% هذا العام، ليصل إلى 2.02 مليون برميل يوميا، بفضل الإنتاج من حقل يوهان سفيردروب، في حين يُرجح استمرار إنتاج الغاز عند 122 مليار متر مكعب، أو 2.1 مليون برميل يوميا من النفط المكافئ.
كما تشير التوقعات إلى تجاوز إيرادات النرويج من قطاع استكشاف وإنتاج النفط والغاز 200 مليار دولار هذا العام (2023). ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يتعارض ذلك مع تعهدات النرويج والتزاماتها بالتحول للطاقة النظيفة؟
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أنه بعد فترة وجيزة من غزو روسيا لأوكرانيا العام الماضي، برزت النرويج كبديل للنفط الروسي، وسرعان ما صعدت لتصبح أكبر مصدر للغاز في أوروبا ومصدرا رئيسيا للنفط الخام.
وبالنسبة لرئيس الوزراء النرويجي جوناس جار ستور، كان عام 2022 عام البعثات الدبلوماسية في جميع أنحاء أوروبا لإطلاق أو تعزيز شراكات الطاقة. ولكن مع احتدام الصراع وارتفاع أسعار الطاقة، واجهت هذه الدولة الصغيرة انتقادات تتعلق بتحقيقها مكاسب غير عادية. ففي عام 2022، كسبت النرويج حوالي 121 مليار يورو (أو 131 مليار دولار) من الدخل الصافي من صناعتها البترولية، بزيادة من حوالي 27 مليار يورو (أو 29 مليار دولار) في عام 2021، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويكي إلى دعوة النرويج لتقاسم ما وصفها بـ "الأرباح الزائدة" للمساعدة في إعادة بناء أوكرانيا.
وانطلاقا من ترويج أوروبا للبيئة والطاقة النظيفة، يرى "رومان فاكولتشوك" رئيس مركز أبحاث الطاقة في المعهد النرويجي للشؤون الدولية أنه "خلال الحرب (الروسية الأوكرانية)، أدركت النرويج أنها يمكن أن تلعب دور مورد الطاقة إلى أوروبا، وأنها في وضع جيد للظهور في المستقبل كقوة عظمى قادمة في مجال الطاقة النظيفة".
وتؤكد "فورين بوليسي" أن النرويج تحاول الظهور في موقف العليم جيدا بكيفية توجيه أرباحها من الطاقة التقليدية إلى بدائل أكثر مراعاة للبيئة. ففي أوائل الثمانينيات، وبعد عقد من تراكم الثروة النفطية، بدأت النرويج في استثمار مليارات الدولارات في بناء إمدادات محلية للطاقة المتجددة، حيث يتمتع النرويجيون اليوم بشبكة كهرباء من الطاقة المتجددة بنسبة 95 في المائة، يأتي حوالي 92 في المائة منها من الطاقة الكهرومائية.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، ضخ النرويجيون أيضا مليارات الدولارات في طاقة الرياح البرية والبحرية، وملايين الدولارات الأخرى في مشروعات احتجاز الكربون وتخزينه (وهي عملية تقنية يتم فيها دفن غاز ثاني أكسيد الكربون في باطن الأرض، بعد فصل الغاز واحتجازه في صهاريج عند انبعاثه من محطات توليد الكهرباء لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري)، وذلك تحت بحر الشمال لما تتمتع به هذه المشروعات من معايير السلامة العالية.
وتشير المجلة الأمريكية إلى أنه بينما تتدافع العديد من الدول الأوروبية لبناء بنية تحتية للطاقة المتجددة، تجلس النرويج على فائض طاقة متجددة مريح وجاهز للتصدير. وأنه للاستفادة من إمكانات الطاقة لدى النرويج، أعلنت أوسلو وبرلين أنهما ستبنيان محطات تستهدف توليد الطاقة من الهيدروجين، إضافة إلى خط أنابيب لضخ الوقود من النرويج إلى ألمانيا، مع تسريع إنشاء سوق هيدروجين فعالة، وسلسلة قيمة، وذلك في إطار جهود ألمانيا (القوة الصناعية في أوروبا) للحد من انبعاثات الاحتباس الحراري وتقليص حجم الاعتماد على الغاز الروسي.
وترى "فورين بوليسي" أن إحدى العقبات الرئيسية التي تقف حاليا في طريق صعود الصادرات النرويجية من الطاقة النظيفة، هي: المواطن النرويجي نفسه، حيث يرى أن بلاده تنتج النفط والغاز لبيعه للخارج والاستفادة من عائداته المادية الضخمة خاصة في ظل الظروف الراهنة، بينما تنتج (النرويج) الطاقة المتجددة للاستهلاك المحلي لاسيما وأن تكلفة الطاقة التقليدية باهظة على المواطن.
ويدعم وجهة النظر هذه حقيقة أن أرباح النرويج من الطاقة المتجددة لم تتجاوز مليار يورو فقط، في حين بلغت نحو 121 مليار يورو من الطاقة التقليدية العام الماضي. وحتى مع شراكاتها الجديدة الطموحة، لا تزال التوقعات تضع أرباح النرويج من الطاقة المتجددة عند 8 مليارات يورو فقط بحلول عام 2030.
ولفتت المجلة الأمريكية إلى أن المفارقة التي ينطوي عليها الموقف هي أن النرويج تروج لنفسها باعتبارها دولة خضراء (صديقة للبيئة)، في وقت تتوسع فيه أنشطتها لاستكشاف الطاقة التقليدية، ما دفع الاتحاد الأوروبي لانتقادها (رغم اعتماده حاليا بشكل كبير على هذه الطاقة).
وفي هذا الصدد، يقول أندرياس بيلاند إريكسن وزير الدولة بوزارة البترول والطاقة النرويجية، إن موقف الاتحاد الأوروبي المتشدد بشأن النفط (انطلاقا من اعتبارات مرتبطة بالتغيرات المناخية) يمثل انعكاسا "مخيبا للآمال"، رغم حالة عدم اليقين بشأن الطاقة في زمن الحرب.
وتساءل إريكسن: في أي سيناريو نلبي فيه الأهداف المناخية المشتركة؟ لا يزال لدينا حاجة للغاز حتى ما بعد 2030. بالطبع، يستغرق الأمر وقتا للتحول الكامل إلى الطاقة النظيفة.
وعلى الرغم من أن عائدات الطاقة المتجددة لن تتطابق أبدا مع عائدات التقليدية بالنسبة للنرويج، إلا أن إريكسن أشار إلى أن بلاده لديها الكثير لتصديره أكثر من الطاقة الخام وحدها. فعلى سبيل المثال، تتمتع صناعة البترول النرويجية بخبرة 50 عاما في بناء محطات عائمة ستوفر تطويرا عالميا لطاقة الرياح البحرية، كما أن أوسلو تتمتع بـ 25 عاما من تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه بالإضافة إلى صناعات كاملة تم بناؤها لإنتاج بنية تحتية عالية للرياح والطاقة الكهرومائية والهيدروجين.
وتؤكد "فورين بوليسي" أنه مع مرور الوقت وبعد تجاوز الأزمة الحالية المرتبطة بالحرب الروسية الأوكرانية، سيتم فحص ودراسة ما قامت به أوسلو خلال هذه الحرب ومدى جديتهم في جعل أنظمتهم صديقة للبيئة، والتزامهم حيال دعم الطاقة الخضراء والنظيفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة