تمر اليوم الذكرى 115 على رحيل الزعيم مصطفى كامل، إذ رحل في 10 فبراير عام 1908، لقد كان من أكبر المناهضين للاستعمار وعرف بدوره الكبير في مجالات النهضة مثل نشر التعليم وإنشاء الجامعة الوطنية، وكان حزبه ينادي برابطة أوثق بالدولة العثمانية، أدت مجهوداته في فضح جرائم الاحتلال والتنديد بها في المحافل الدولية خاصة بعد مذبحة دنشواي التي أدت إلى سقوط اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر.
عاصر مصطفى كامل العديد من رموز عصر النهضة الأدبية من بينهم الأديب الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964) الذي يعد واحدا من أبرز المفكرين المصريين العرب، كان من الشخصيات المؤثرة فى الشارع الثقافى والسياسى أيضا، وكان اللافت أنه معجب بالزعيم سعد زغلول جدا، ولكنه لم يكن يحب الزعيم مصطفى كامل.
العقاد ومصطفى كامل
يقول عباس محمود العقاد فى كتابه "رجال عرفتهم" عن الزعيم مصطفى كامل، رأيت مصطفى كامل لأول مرة وأنا فى الخامسة عشرة؛ أى فى مثل سنه يوم تصدى لقيادة "الوطنية المحلية" بحى الصليبة، كنت ببلدتى أسوان أشتغل مع زملائى بإحدى الدعوات المحلية، وهى دعوة التطوع للتعليم بالمدارس الأهلية.
وقد تَقَدَمَنَا فى هذه الدعوة، زميل لنا فى مدرسة أسوان الأميرية، تخرج قبلنا وانتظم فى وظيفة عسكرية بمصلحة خفر السواحل، وهو اللواء محمد صالح حرب، رئيس جماعة الشبان المسلمين، وكان يساعد المدرسة الأهلية التى تبعناه فى التعليم بها ويتبرع لها بالمال من مرتبه، بعد أن حيل بينه وبين التطوع للتدريس فيها.
وقدم مصطفى كامل إلى أسوان فى موسم الشتاء، ومعه الأمير حيدر ومدام جولييت آدم وكاتبة إنجليزية من الأحرار تسمى مسز يونج — على ما أذكر — وهم جميعًا فى رحلة نيلية.
وخرج مصطفى كامل ذات صباح يتمشى على شاطئ النيل ومعه الكاتبتان الفرنسية والإنجليزية، فوقفوا عند باب المدرسة الأميرية وسألوا البواب عن "حضرة الناظر" فغاب هنيهة، وعاد يقول له: إنه غير موجود!.
وذكر مصطفى كامل أن صاحب المدرسة الأهلية — وقد كان يراسل اللواء — قد دعاه إلى زيارتها، فقال لصحبه: مدرسة بمدرسة، فلنذهب إلى المدرسة التى "ناظرها موجود".
ودخل غرفة السنة الرابعة وفيها درس اللغة العربية، فجلس مكان التلميذ الذى كان يكتب على اللوحة، وأملى عليه هذا البيت لأبى العلاء ليعربه ويشرح معناه:
والمرء ما لم تفد نفعًا إقامته غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر.
وترجم مصطفى كامل هذا البيت إلى اللغة الفرنسية فى طلاقة وثقة، وناقش التلميذ فى شرح معناه، فتلعثم التلميذ ولم يجب بطائل، فأسعفته معتذرًا له بأن الغيم الذى لا يمطر فى أسوان ولا يسير نعمة محبوبة، وأن الغيم الممطر وغير الممطر عندنا قليل!.
ولاح لى أن "الباشا" لم يسترح لهذا التعقيب، ولم يتقبل منه الإشارة إلى خطئه فى اختياره، وإن لم يكن فى الأمر غير فكاهة تتلاقى فيها التخطئة والتصويب.
صورة مصطفى كامل التى بقيت فى خلدى مدى الحياة، هى الصورة التى انطبعت فيه من أثر هذه الرؤية الأولى، حركاته كلها كانت تنم على إحساسه بدقة تكوينه، يبدو ذلك من شموخه وزهوه، كما يبدو من طول طربوشه وارتفاع كعبه، ومن سترة "البنجور" التى كانت لا تلائم سنه وهو دون الثلاثين.
وهذا البيت من قصيدة أبى العلاء، أليس فيه تعريض بالأجسام التى تسد عين الشمس فتحجب الضياء ولا تجود بقطرة من الماء؟.
وربما شغلته دقة تكوينه بسمت الوقار، فلم تسمح لها بمجاراة روح الفكاهة، ولا سيما الفكاهة على حسابه، والفكاهة التى فيها تخطئة لاختياره.
وقد كان من شأن المواقف الأخرى التى اقتربت فيها من شخص مصطفى كامل، أن تؤكد هذه الصورة ولا تمحو عندى ظلًّا من ظلالها.
ويبدو موقف العقاد من مصطفى كامل جعله ينتقد شعر أمير الشعراء أحمد شوقي وينتقد قصيدة الرثاء التى كتبها الأخير فى مصطفى كامل، فوفقا لكتاب "النقد والنقاد المعاصرون" للدكتور محمد مندور، فأن العقاد كان يزعم أن القصيدة السليمة البناء الممتعة بالوحدة لا يمكن تقديم بيت منها على غيره، ومن هنا جاء حكمه على قصيدة مثل رثاء شوقي لمصطفى كامل بأنها مفككة البناء لمجرد أن العقاد قد استطاع إعادة ترتيب أبياتها على نحوٍ جديد دون أن يبدو عليها التخريب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة