في الثامنة من مساء كل سبت وعلى مدار الخمسينيات وربما الستينيات كان المصريون والعرب الذين يصلهم الإرسال الإذاعي المصري يتجمعون حول الراديو ويرفعون صوته لكي يستمعوا إلى صوت مصري يصدح بتلاوة القرآن الكريم، في طقس أسبوعي يليق بإحدى مفردات القوى الناعمة المصرية، حيث كانت فقرة التلاوة الأسبوعية الخاصة بالشيخ عبد الباسط عبد الصمد.
ولد الشيخ عبد الباسط في أرمنت بمحافظة قنا في صعيد مصر في عام 1927، وحفظ القرآن في كتاب القرية وتعلم القراءات السبع على يد أحد كبار المشايخ المصريين في ذلك الوقت وهو الشيخ محمد سليم، والتحق بالإذاعة المصرية قارئا للقرآن عام 1951، حيث انتقل للإقامة بالقاهرة وعين قارئا لمسجد الإمام الشافعي ثم قارئا بمسجد الإمام الحسين خلفا للشيخ محمود علي البنا، وكان أول نقيب للقراء المصريين، مما جعل البعض يطلق عليه لقب زعيم دولة التلاوة المصرية.
كان عبد الباسط عبد الصمد سفيرا لدولة القراءة المصرية على مستوى العالم فكانت الدول تستقبله استقبالا رسميا غير أن الشعوب قد وضعته في مصاف النجوم فكانت لياليه التي يحييها بقراءة القرآن ليال غير عادية في تلك البلاد، فقد كانت أولى سفراته إلى خارج مصر في عام 1952 حيث قصد أداء فريضة الحج فانتهز المسئولون بالمملكة تلك الفرصة وطلبوا إليه أن يسجل بعض القراءات في الحرمين، فلم يمانع وبعد أن أذيعت تلك القراءات أطلق عليه لقب صوت مكة، غير أن استقبالاته في الهند وإندونيسيا كانت تفوق ما يمكن تخيله حيث كان مستمعوه يقضون الليل واقفين على أقدامهم ليستمعوا إلى قراءته، وكانوا كثيرين بما يفوق القدرة على الإحصاء، غير أنهم كانوا يصلون إلى مسافة كيلومتر حول المسجد الذي يقرأ فيه.
وتتميز دولة التلاوة المصرية بإعلاء الحس الإنساني في التعامل مع النص القرآني، فهي تمزج القداسة بالإبداع والتعبير الحساس عن المعاني، عن طريق تطعيم قواعد النطق والقراءات بالمقامات الموسيقية التي لا يستطيع سامعها إلا التأثر بها، وهو ما جعلها مدرسة فريدة في القراءة لا تخرج عن الإطار القاعدي لكنها تجعل منه وسيلة لتوصيل المعنى محملا بمشاعر إنسانية شفافة.
وكان عبد الباسط إلى جانب كثير من الأسماء المصرية من أمثال البنا ومصطفى إسماعيل والنقشبندي والحصري والطبلاوي وغيرهم نجوما في سماء القراءة، وسفراء لمصر علموا العالم كيف يكون الدين إنسانيا وجميلا ومحبا، وكيف يكون النص القرآني بجانب قداسته وحمله للمعاني السامية، حاملا كذلك لرسالة إنسانية قوامها المحبة والسلام.
رحل عبد الباسط منذ خمس وثلاثين عاما، في 30 نوفمبر عام 1988 بعد أن نال التكريم الرسمي والأوسمة من رؤساء مصر وسوريا وباكستان وسوريا ولبنان وماليزيا والسنغال، لكن التكريم الأكبر كان من كل الشعوب التي ارتبطت بصوته وقراءته، اللذين حملا روح ذلك الوطن إلى كل محبيه خارجه، لتكون دولة التلاوة ذراعا مصريا، وقوة مصرية ناعمة يتوجب علينا الآن إحياؤها في قلوب محبيها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة