ورد سؤال لدار الإفتاء المصرية عبر موقعها الرسمي، جاء مضمونه: "أريد الزواج من سيدة على أن يكتب كل منا للآخر تنازلًا عن ميراثه منه بعد وفاته، فهل هذا جائز؟".
وجاء رد دار الإفتاء كالتالي:
هناك من الناس من يريد الزواج الثاني، ولا يريد إشراك غير أسرته الأولى في الميراث؛ حتى لا تفاجأ بالزواج بعد وفاته حال كون الزواج الثاني لا تعلم به الأسرة الأولى، أو حتى لا يكون مانعًا من الموافقة عليه من الأسرة الأولى إن كانوا على علم به، وقد تكون هناك صور أخرى تدفع بعض الناس لهذا الفعل المسئول عنه.
وهذه الحالة تعدُّ إسقاطًا للحق قبل وجود سببه؛ لأن الوارث يسقط حقه في الميراث قبل وفاة المورث.
والحكم في هذه الحالة يكون بعدم الجواز؛ وبعدم الاعتداد بهذا التنازل.
والدليل على ذلك هو أن وفاة المورث سبب لانتقال الميراث إلى الوارث؛ ومعلوم أن السبب هو ما جعله الشارع علامة على مسبِّبه وربط وجود المسبب بوجوده وعدمه. فيلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدمه عدمه، فهو أمر ظاهر منضبط، جعله الشارع علامة على حكم شرعي هو مسببه، ويلزم من وجوده وجود المسبب، ومن عدمه عدمه. انظر: "أصول الفقه" للشيخ عبد الوهاب خلاف (ص: 117، ط. دار القلم).
وقال الإمام ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (1/ 434، ط. مكتبة العبيكان): [(خِطَابُ الْوَضْعِ) فِي اصْطِلاحِ الأُصُولِيِّينَ: (خَبَرٌ) أَيْ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ، بِخِلافِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، (اسْتُفِيدَ مِنْ نَصْبِ الشَّارِعِ عَلَمًا مُعَرِّفًا لِحُكْمِهِ)، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ خِطَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ وَاقِعَةٍ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، حَذَرًا مِنْ تَعْطِيلِ أَكْثَرِ الْوَقَائِعِ عَنْ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَنَّهُ شَيْءٌ وَضَعَهُ اللهُ فِي شَرَائِعِهِ، أَيْ جَعَلَهُ دَلِيلًا وَسَبَبًا وَشَرْطًا، لا أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَلا أَنَاطَهُ بِأَفْعَالِهِمْ، مِنْ حَيْثُ هُوَ خِطَابُ وَضْعٍ، وَلِذَلِكَ لا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فِي أَكْثَرِ خِطَابِ الْوَضْعِ، كَالتَّوْرِيثِ وَنَحْوِهِ] اهـ.
كما أن الميراث يدخل في ذمة الوارث إجباريًّا؛ أي اضطراريًّا لا يستطيع دفعه، وليس اختياريًّا كالهبة والوصية مثلًا يملك فيهما الموهوب له والموصى له دفع المال ولا يقبله.
وبمثل هذا صرح بعض أهل العلم؛ ففي "رد المحتار" (6/ 758، ط. دار الكتب العلمية): [(قَوْلُهُ أَوْ بِالضَّرُورِيِّ) أَي الْإِرْثِ، وَالِاخْتِيَارِيِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ] اهـ.
وقد وردت مسألة مشابهة لفضيلة مفتي الديار المصرية في وقته الشيخ/ بكري الصدفي، في ربيع الأول 1331 هجرية، ونص السؤال: "رجل مسيحي تزوج بامرأة مسيحية، اتفقا في أثناء محضر الخطوبة قبل التكليل عليها شرطًا كتابيًّا محررًا من نسختين نصه: إذا مات أحدهما قبل الآخر لا يرثه الحي الباقي منهما، فشرطها يكون ميراثها لإخوتها بعد وفاتها إذا لم تعقب ذرية بدون دخول زوجها المذكور في ميراثها، وشرطه إذا توفي قبلها يكون ميراثه لأولاده الذين يموت عنهم سواء كان من زوجته المتوفاة أو منها بدون دخولها في ميراثه، فهل هذا الشرط المحرر بينهما يسري ويعمل به إذا دعت الحال تقاضي أحدهما بعد وفاة الآخر أمام الشريعة الغراء أو لا يعمل به؟ أفيدوا الجواب، ولكم من الله الأجر والثواب".
فأجاب رحمه الله: "الإرث جبري لا يسقط بالإسقاط مطلقًا، كما هي النصوص الشرعية، وعلى ذلك فالشروط المذكورة بين الزوجين في حادثة هذا السؤال لا يعول عليها. والله تعالى أعلم" انتهى نص الفتوى.
وقد صرَّح بعض أهل العلم في بطلان هذه المسألة إن ذكرت شرطًا في عقد النكاح؛ قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 226، ط. دار الفكر): [(وَإِنْ أَخَلَّ) الشَّرْطُ بِمَقْصُودِ النِّكَاحِ الْأَصْلِيِّ (كَأَنْ) شَرَطَ أَنْ (لَا يَطَأَهَا) الزَّوْجُ أَصْلًا، وَأَنْ لَا يَطَأَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَثَلًا فِي السَّنَةِ أَوْ أَنْ لَا يَطَأَهَا إلَّا لَيْلًا فَقَطْ أَوْ إلَّا نَهَارًا فَقَطْ (أَوْ) أَنْ (يُطَلِّقَـ)ـهَا وَلَوْ بَعْدَ الْوَطْءِ (بَطَلَ النِّكَاحُ)؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ فَأَبْطَلَهُ، وَلَوْ شَرَطَ هُوَ أَنَّهَا لَا تَرِثُهُ أَوْ أَنَّهُ لَا يَرِثُهَا أَوْ أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ أَوْ أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ بَطَلَ أَيْضًا، كَمَا قَالَهُ فِي "أَصْلِ الرَّوْضَةِ" عَنْ الْحَنَّاطِيِّ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَصَحَّحَ الْبُلْقِينِيُّ الصِّحَّةَ وَبُطْلَانَ الشَّرْطِ] اهـ.
وقال الشيخ العلاًّمة الدردير في "الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي" (2/ 238، ط. دار الفكر): [(وَ) فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ وُجُوبًا (مَا) أَيْ: نِكَاحٌ (فَسَدَ لِصَدَاقِهِ) إمَّا لِكَوْنِهِ لا يُمْلَكُ شَرْعًا؛ كَخَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ، أَوْ يُمْلَكُ وَلا يَصِحُّ بَيْعُهُ؛ كَآبِقٍ، (أَوْ) وُقِعَ (عَلَى شَرْطٍ يُنَاقِضُ) الْمَقْصُودَ مِن الْعَقْدِ؛ (كَأَن لا يَقْسِمَ لَهَا) فِي الْمَبِيتِ مَعَ زَوْجَةٍ أُخْرَى، (أَوْ) شَرَطَ أَنْ (يُؤْثِرَ عَلَيْهَا) غَيْرَهَا؛ كَأَنْ يَجْعَلَ لِضَرَّتِهَا لَيْلَتَيْنِ وَلَهَا لَيْلَةً، أَوْ شَرَطَ أَن لا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، أَوْ نَفَقَةً مُعَيَّنَةً كُلَّ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ، أَوْ أَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهَا وَعَلَى أَبِيهَا، أَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهَا أَوْ عَلَى أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، أَوْ شَرَطَتْ زَوْجَةُ الصَّغِيرِ أَو السَّفِيهِ أَو الْعَبْدِ أَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى الْوَلِيِّ أَو السَّيِّدِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ فِي الْجَمِيعِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَيُلْغَى الشَّرْطُ كَمَا قَالَ، (وَأُلْغِيَ) الشَّرْطُ الْمُنَاقِضُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ مَا مَرَّ] اهـ.
ومما تقدم يتبين عدم جواز اشتراط عدم التوريث بين الطرفين في عقد النكاح، وأنَّ الراجح إذا تم الاتفاق على هذا الشرط حصول صحَّة العقد وبطلان الشرط؛ فيجري التوارث بين الزوجين بحسب ما هو مشروع ومعلوم من الدين الإسلامي الحنيف .. والله سبحانه وتعالى أعلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة