على هامش افتتاحه لمحطة عدلى منصور والقطار الكهربائى الخفيف، وعلى رغم أهمية الحدث الكبير إلا أنه قد لفت نظري قول الرئيس عبدالفتاح السيسى، إن (الجيش أسطورة مصر)، متابعا: (أنا قولت ده لما كنت وزير دفاع، الجيش السبب اللى جعله ربنا عمود عشان البلد تستند عليه فى أى وقت)، نعم لفتت نظري تلك العبارة البليغة التي تشير إلى أنه على الرغم من الجهود الحثيثة التي يشعر بها المصريين من جانب الجيش الذي نجح في معاركه العظيمة على مدار التاريخ في سبيل الدفاع عن الوطن وحصانة والحفاظ على مقدراته وكما أظهر بطولة وشجاعة في ميادين القتال ها هو اليوم ينجح في الحياة المدنية محققا إنجازات غير مسبوقة في التاريخ القديم والحديث بفضل قيادته الحكيمة التي تسعى لجعل مصر على طريق التقدم والتطور، إلا أننا لانعرف عنه الكثير.
ولأنني من المؤمنين بأن الجيش هو العمود الفقري في الحياة المصرية منذ التاريخ القديم وحتى قيام الساعة، فقد أدركت أنه لابد من تعريف القارئ العزيز ببعض الثوابت عن جيش مصر الذي لا نعرفه كثيرا، فحقائق التاريخ القديم والحديث ووقائع ومعطيات الحاضر تؤكدا صدق من لا ينطق عن الهوى "سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم" الذى شهد لجند مصر - قبل ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمان - بأنهم خير أجناد الأرض وأنهم فى رباط إلى يوم الدين، وما أن يشكك البعض فى ذلك حتى تأتى الوقائع المتساندة لتؤكد تحقيقها ومصداقيتها.
لقد كان هذا الجيش هو العمود الفقرى في حياة المصريين، كما تؤكد حقائق التاريخ أنه أول جيش نظامي في التاريخ أنشئ على أرض الكنانة (2696 قبل الميلاد) في عهد الملك "زوسر"، مرورا بـ "أحمس - تحتمس .. وغيرهم من القادة العظماء بناة المجد التليد على ضفاف النيل"، ليظل الجيش حامي الديار ومبعث فخرها ، حتى (سنة 525 قبل الميلاد" ، مع دخول جيوش الفرس، وتبقى مصر محتلة طوال (2481 سنة - حتى 23 يوليو 1952)، ومازال الجيش يلعب الأدوار المحورية في عمر الوطن، حتى أصبح سجله حافلا بأكبر ملاحم التاريخ العسكري في الصمود والتصدي، مرورا بهزيمة 67 وما أعقبها من عمليات في حرب الاستنزاف ، حتى فتح بوابات النصر في أكتوبر 73، وتبقى بصماته واضحة في مجال الخدمة المدنية، وحماية المواطنين في ثورتي 25 يناير 2011 ، وثورة 30 يونيو 2013.
معروف أنه فى العصر الحديث أسس محمد على باشا أول مدرسة حربية تقوم بإعداد الجنود والضباط من أبناء مصر فى مدينة أسوان، وبأيدي المصريين الصناع المهرة أقام البنية الأساسية للصناعات الحربية لتزويد الجيش باحتياجاته من البنادق والمدافع والبارود والسفن، وخاض بهذا الجيش العديد من الحملات العسكرية الناجحة إلى أن تحالفت القوى الدولية آنذاك لتدمير الأسطول المصرى فى موقعة "نفارين"، واكتسب الجيش المصرى على مدار تاريخه قدرات هائلة على الصمود والنهوض مجدداً بعد كل كبوة، ولا أدل على ذلك مما حدث فى 5 يونيو 1967م وهزيمته فى معركة لم تتح له فيها فرصة القتال الحقيقي.
لقد مكن الميراث التاريخى جيش مصر من الصمود وظهر معدن المقاتل المصرى بعد أيام قليلة من النكسة وبالتحديد فى أول يوليو 1967م ، كما ظهر في ملحمة "رأس العش" وتدمير المدمرة الإسرائيلية "إيلات" قبالة سواحل بور سعيد باستخدام لنشات الصواريخ لأول مرة فى التاريخ العسكرى البحرى، وملحمة بناء حائط الصواريخ بأيدي المصريين مدنيين وعسكريين عمال ومهندسين وفنيين وفلاحين، ومهدت حرب الاستنزاف الطريق لجيش مصر لخوض أعظم معاركه فى التاريخ الحديث معركة العبور العظيم يوم السادس من أكتوبر عام 1973 والتغلب على أكبر مانع مائي فى تاريخ الحروب وإهالة الساتر الترابي وتحطيم خط بارليف الحصين الذى وصف بأنه أقوى من خط "ماجينو".
ولعلنا نذكر جيدا كيف كان موقف الجيش المصرى العظيم المساند والمؤيد والحامي لثورة الشعب المصرى العظيم فى 25 يناير 2011، وثورة 30 يونيو 2013، ليثير دهشة البعض ممن لا يعرفون طبيعة هذا الشعب وخصائصه وممن يجهلون عقيدته، بل أن البعض ذهب إلى طرح الأسئلة حول طبيعة موقف الجيش وهل هو "تكتيكي" أم "استراتيجي"، وهل هو موقف أملته الظروف والملابسات على الأرض، أم هو موقف أصيل يتفق مع ثوابت الجيش المصرى ومبادئه التى تشكلت وترسخت وثقلت عقيدته على مدى آلاف السنين.
والواقع أن هؤلاء وغيرهم لا يعرفون أن الجيش المصرى على مدار تاريخه - منذ توحيد القطرين على يد الملك مينا عام 3200 ق.م - نذر نفسه للدفاع عن الحق والعدل والتراب المصرى، ولا يعرفون أن الجيش المصرى على مدار تاريخه جزء لا يتجزأ من شعب مصر العظيم. وأن من أسباب قوة هذا الجيش أنه لم يعتمد يوماً على المرتزقة الأجانب وإنما اعتمد على المصريين أبناء الأرض الطيبة.. فهو جيش الشعب ومن الشعب وإلى الشعب، فالجيش الذى قاده "أحمس" لطرد الهكسوس بعد احتلالهم لمصر عام 1789 ق.م، كان جله من المصريين والجيش الذى قاده "تحتمس الثالث" لتأييد حدود مصر كان من المصريين، والجيش الذى قاده "رمسيس الثانى" وهزم به الحيثيين فى معركة " قادش" كان فقط من المصريين، وهى المعركة التى فتحت الطريق لتوقيع أول معاهدة سلام فى التاريخ المدون عام 1270 ق.م. بين المصريين والحيثيين.
نحن في العادة نسمع كثيرا عن إنجازات القوات المسلحة في الاكتفاء الذاتي النسبي من احتياجتها المعيشية، ولكننا في ذات الوقت لا ندرك حقيقة البطولات العسكرية الخلاقة والمبدعة في القطاع الخدمي، والذي أصبح عنوانا بارزا للقدرة والكفاءة، وهو لا يحظى إلا بالقدر الشحيح من الترويج الإعلامي عبر قليل من الأفلام التسجيلية والنشرات المطبوعة، والبرامج الدعائية القاصرة، التي لا تعبر بالقدر الكافي عن روعة الإنجاز من جانب القوات المسلحة المصرية في وقت السلم تماما كما هو دورها المعروف في وقت الحرب.
ربما كانت الحروب التي خاضها المقاتل المصري أكبر برهان عملي على كفاءته وبطولات الأسطورية في الدفاع والزود بالنفس من أجل الوطن، انطلاقا من عقيدة إيمانية بقيمة هذا التراب المقدس، وعند الحديث عن الحقائق الكاشفة للعديد من أوجه الخدمات المدنية التي تقدمها القوات المسلحة، عبر مشاريع "الهيئة الهندسية"، و"جهار مشروعات الخدمة الوطنية" عبر "جهاز الخدمة المدنية" وغيرها من مؤسسات عملت بشرف في تغطية الاحتياجات الأساسية للجيش، وطرح الفائض منها في الأسواق المحلية، بنصف ثمنها، وهو ماساهم إلى حد كبير في كسر حدة الاحتكارات، ورفع العبء الأكبر من على كاهل المواطن البسيط في وقت الأزمات.
هذا التاريخ العريق لجيش مصر وتلاحم شعب مصر الدائم معه هو ما يفسر موقف الجيش المساند والمدافع والحامي لثورة 25 يناير 2011 ومطالب شعب مصر فى الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وهو الذى يفسر الثقة المتبادلة بين الشعب والجيش كما ترجم في 30 يونيو 2013، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ابن المؤسسة العسكرية، مدرسة الوطنية المصرية، كما أنه في الوقت ذاته يفسر حرص الجيش وقيادته الممثلة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على توفير أفضل السبل للوصول إلى حكم مدنى ديمقراطى، وهو ما يوضح جهود القوات المسلحة لتوفير كافة أنواع الأمن لشعب مصر بتصديها لمثيري الفتن ومن يبتغونها عوجاً ووقوفها بجوار الشرطة فى التصدي لكل من يحاول الإفساد فى الأرض وترويع شعب مصر ونشر الفوضى.
"ليس من قال أو سمع كمن رأي"
لقد أتيحت لي فرصة الرؤية على الطبيعة قبل سنوات قليلة ماضية تحقيق ماوراء تلك المقولة التي تلخص لك مجمل الرحلة التي قمنا من خلالها بزيارة (جهاز مشروعات الخدمة الوطنية) بالقوات المسلحة المصرية، أنت هنا كمن يدخل "مغارة على بابا "، وذلك ليس من قبيل الخيال الذي لايرقى إلى الواقع، بقدر ما تغرق في تفاصيل الرحلة الممتعة، تلك التي تشبه نوعا من "التحقيق الاستقصائي" بالغ الدقة على مستوى التفاصل المفعمة بالمعلومات والانجازات التي تعكس بالضرورة جوهر عمل القوات المسلحة المصرية الحالي، والذي يتسم بالدقة والانضباط وسرعة الإنجاز - رغم مايصيبها من كثير من شرر معلومات التشكيك المتطايرة - وهو ما نحتاجه اليوم في كافة مناحي الحياة المصرية الحالية.
ولعل أهم ما في تلك الزيارة هو الكشف عن حقيقة هذا الجهاز العملاق الذي يوفر المأكل والمشرب من خلال مزارع نموذجية، ومصانع تعمل بكفاءة عالية في مجالات البنية الأساسية، من خلال أفضل الكوادر والعقول المصرية القادرة على صنع المستحيل، كما تجلى لنا من خلال شرح القادة القائمين على تلك المشروعات بروح تتسم بالمصداقية عبر عروض حية بالأرقام والاحصاءات وكيفية التشغيل بأحدث أساليب العصر من تكنولوجيا.
لقد شاهدنا بأعيننا وأدركنا أننا أمام خلايا نحل تعمل في غياب تام، بل صمت مريب غلب على كافة وسائل الإعلامية المصرية التي تحدث صخبا وضجيجا يوميا مقيتا، بينما تغض الطرف عن كفاءة العقول المصرية القادرة على الابتكار وصناعة المستحيل، جنبا إلى جنب مع الكفاءة القتالية التي لاتخور في زمن السلم، وهى في ذلك تواكب العصر، ليكون الجيش المصري دوما في مصاف جيوش العالم، ويظل يضرب أكبر الأمثلة في القدرة والتحدي على المواجهة في حالات الدفاع والهجوم.
التفاصيل كثيرة والأرقام والإحصاءات مذهلة، وبلا شك تلك السطور لا تعكس كفاءة العسكرية المصرية في القيادة والنماذج العملية في توظيف الكوادر المدنية، ناهيك عن الوقوف على أسباب عصر التكنولوجيا المحفوف بالمخاطر، لكن قصورا كبيرا يبدو من جانب وسائل الإعلام في الدخول نحو تلك الميادين التي لا تقل فى أهميتها عن ساحات الحروب والوغى ففي كل مكان ذهبا إليه طوال تلك الرحلة كان فخرنا بجيش مصر يزيد يوما بعد، ونحن نستكمل زيارات المناطق الحيوية في إطار دورة تثقيفية استطاعت من خلالها المشاهد الحية والاحتكاك بفكر وعقل وجهود أبناء الجيش المصري إزالة الكثير من اللغط والالتباس حول كفاءة أبناء القوات المسلحة، الذين يعملون فى صمت متحدين عناصر الجغرافيا الصعبة - وهو ما يحتاج من إعلامنا إضاءة وجه الحقيقة - لتظل صفحات الفخار من عمر قواتنا المسلحة "برا وبحرا وجوا" مكتوبة بحروف من نور ، وتؤكد على حقيقة أن "جند مصر هم خير أجناد الأرض" ، وتعلو جباهم دوما بكرامة الوطن، لسان حالهم جميعا يقول: مصر باقية بفضل جيشها القوى ومواطنيها الذين سيظلون في العين والقلب، رغم عواصف وأنواء السياسة المجحفة.
وفي النهاية لا يسعني إلا أن أتوجه بالدعاء لكل الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم ودمائهم الذكية حتى تظل رايات مصر عالية خفاقة عبر العصور.. إلى الأحياء عند ربهم يرزقون، بعد أن منحونا الكرامة والعزة والأمل فى غد أكثر إشراقا ننعم فيه بالحرية والكرامة والعدالة، وإلى فخر مصر وضميرها، من أبناء الجيش تحية تقدير واحترام، وعاشت قواتنا المسلحة فخر الوطنية المصرية، والعمود الفقري الذي سيظل حاميا للحدود وصانع أسطورة التحدي الكبير في الحياة المدنية كما أشار الرئيس السيسي في كلمته القصيرة عن الجيش.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة