كانت الساعة الثامنة مساء، حين أعلنت الإذاعة المصرية فى نشرتها عن إتمام التفاهم على جلاء الجيش البريطانى عن مصر نهائيا، وأن التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاقية تم فى ذلك اليوم، 27 يوليو، مثل هذا اليوم1954، حسبما يذكر عبدالفتاح أبوالفضل فى مذكراته «كنت نائبا لرئيس المخابرات».
فى نفس اليوم، وحسب عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 23 يوليو 1952»، أذاع الرئيس جمال عبدالناصر بيانا قال فيه: «إننا نعيش الآن لحظة مجيدة فى تاريخ وطننا، إننا نقف الآن على عتبة مرحلة حاسمة من مراحل كفاح شعبنا، لقد وضع الهدف الأكبر من أهداف الثورة منذ هذه اللحظة موضع التنفيذ الفعلى، فلقد وقعنا بالأحرف الأولى اتفاقا ينهى الاحتلال، وينظم عملية جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر الخالدة، وبذلك تخلص أرض الوطن لأبنائه شريفة عزيزة منيعة، بعد أن قاست 72 عاما مريرة حزينة.. أيها المواطنون، إننى أسرح بخواطرى فى هذه اللحظة المجيدة عبر أسوار الحياة إلى الذين جاهدوا من أجل هذا اليوم ولم يمتد العمر بهم ليعيشوه.. أسرح بخواطرى إلى الرحبات المقدسة التى تعيش فيها أرواحهم الخالدة، ونشعر بأنهم يتابعون كل ما فعلنا، كما تابعنا كل ما فعلوا وحملنا الأمانة بعدهم ورفعنا المشاعل على الطريق».
إننى اتجه إليهم بقلب شعب، وأتجه إليهم بوفاء جيل.. إليهم جميعا.. الزعماء الذين كافحوا، أحمد عرابى، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، والشباب الذين باعوا أرواحهم للفداء على كل بقعة من ثرى الوطن، اتجه إليهم بقلب شعب وبوفاء جيل، وأقول لهم: سوف نمضى على الطريق لن نضعف ولن نتخاذل ولن ننسى الأمانة التى حملناها، ولا الواجب الوطنى الذى عاهدنا الله أن نقوم به.. أيها المواطنون، كأن القدر أعد هذا اليوم للمجد. إنه فى نهاية هذا الشهر- يوليو- يوافق الأيام التى بدأ فيها الاحتلال منذ اثنين وسبعين سنة، ويوافق الأيام التى قامت فيها الثورة منذ عامين، وفى نهاية هذا الشهر بل وفى نفس اليوم منه بالذات، يوافق اليوم الذى خرج فيه فاروق مخلوعا عن عرش مصر يحمل معه حطام الذل والإقطاع والفساد.. أيها المواطنون، إن اليوم أيضا يحمل بشائر المجد للمستقبل، فبعد مدة العشرين شهرا المحددة لإتمام الجلاء عن مصر، ستكون فترة الانتقال فى جنوب الوادى قد انتهت، ويكون الجلاء قد تم أيضا عن السودان الحبيب، وبذلك يصبح وادى النيل كله وليس على ضفافه إلا أبناء النيل الأحرار.
بدأت المفاوضات مع الجانب البريطانى منذ 27 إبريل 1953، ووفقا للدكتورعاصم الدسوقى فى مقاله «يوم انتظره المصريون 74 عاما»، «الأهرام 18 يونيو 2014»: «دخل عبدالناصر هذه المفاوضات مستندا إلى قوة العمل الفدائى، الذى استمر ضد معسكرات الإنجليز فى منطقة قناة السويس»، ويكشف عبدالفتاح أبوالفضل فى كتابه «كنت نائبا لرئيس المخابرات»، أنه فى سبتمبر 1952 بدأت مصر الترتيب للتمهيد لمطالبة البريطانيين بجلاء قواتهم كلية من الأراضى المصرية، وذلك بتنظيم مقاومة فى قاعدة القنال، بدأت السلطات المصرية بإصدار قرار بتكوين حرس وطنى لاحتمال استخدامه فى المقاومة الشعبية ضد قاعدة القنال، وتكون مكتب خاص للمقاومة فى إدارة المخابرات بالقاهرة ضم، سعد عفرة وكمال رفعت وعبدالمجيد فريد، وكان فيه قسم للمعلومات وقسم للعمليات، وتم نقلى فى مكتب مخابرات القنال بالإسماعيلية مع الزميل عمر لطفى، الذى كان قائما بالعمل بهذا المكتب قبل الثورة»، ويذكر «أبوالفضل» العديد من العمليات الفدائية التى تم تنفيذها.
أما كمال الدين رفعت، فيؤكد فى مذكراته «حرب التحرير الوطنية»: «لم تكن الشهور الثمانية بين قيام الثورة فى 23 يوليو 1952، وبدء محادثات الجلاء فى 27 من إبريل سنة 1953 وقتا مبددا، بل كان العمل ليل نهار من أجل الحصول على أكبر معلومات ممكنة عن المخابرات الإنجليزية، ووضع قوات الاحتلال، وكان إعداد الفدائيين للمعركة تدريبا وسلاحا مستمرا»، يضيف رفعت: إن قيادة الثورة أوكلت له مهمة جمع السلاح.. يؤكد: «استطعت بحكم صلتى ببعضهم أن أحصل على السلاح الذى كان لديهم، أما البعض الآخر الذى لم أكن أعرفه تقدم وحده ليسلم السلاح المخزون عنده، من هؤلاء، الموسيقار مدحت عاصم الذى اتصل بى ليسلمنى سلاحا كان يشونه فى مخبأ تحت الأرض بمنزله بالعباسية، واحتفظ به بعد حريق القاهرة فى انتظار المعركة التى ستقوم لا محالة».
يؤكد «رفعت»، أن الحوادث تعددت ضد القوات البريطانية وشملت، قتل، خطف، سرقة، أسلحة وذخائر، قطع المياه، تعطيل المواصلات والسكة الحديد، وإلقاء المنشورات وتصاعد الحرب النفسية ضدهم، وكان منع الصحف عنهم وسيلة ضغط عليهم، وعندما استؤنفت المفاوضات فى يوليو 1954 طالب الجانب البريطانى بالسماح بها، فأصدر ناصر أمره برفع الحظر على وصولها، وأنشأ الفدائيون محطة إذاعة سرية تذيع على الجنود البريطانيين باللغة الإنجليزية، وتشرح لهم وجهة نظر مصر فى قضية القاعدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة