عاد الشاعر أحمد رامى من فرنسا إلى القاهرة فى 21 يوليو 1924 بعد عامين من دراسة المكتبات وتعلم اللغة الفارسية، وبعد عودته بثلاثة أيام وتحديدا فى ليلة 24 يوليو، مثل هذا اليوم، 1924، ذهب إلى مسرح الأزبكية ليستمع إلى المطربة الجديدة «الآنسة أم كلثوم» وهى تغنى من أشعاره «الصب تفضحه عيونه / وتنم عن وجد شؤونه/ أنا تكتمنا الهوى/ والداء أقتله دفينه»، حسبما تذكر فى مذكراتها، إعداد «محمد رفعت المحامى».
كان هذا اللقاء الأول بين معجزة الغناء العربى، والشاعر الذى جدد شباب الأغانى المصرية، وخرج بها من الأفق الضيق المحدود الذى كانت تضطرب حائرة فيه، إلى آفاق فسيحة عديدة تسرح فيها، وتمرح، وتحلق، وتغوص إلى أعماق النفوس، وتشير إلى شتى الأحاسيس، وفقا لرأيها فى مذكراتها المنشورة بمجلة «آخر ساعة» من نوفمبر 1937 حتى يناير 1938، وأعدها الكاتب الصحفى والناقد محمد شعير فى كتاب بعنوان «مذكرات الآنسة أم كلثوم».
كان للقاء مقدمات، يذكرها «محمد رفعت»، قائلا: إن «رامى» قبل أن يعود بأيام قليلة تلقى من صديقه «محمد فاضل» خطابا يسأله أن يعجل بالعودة «فقد ظهرت مطربة قادمة من الريف.. من أعماق السنبلاوين، هزت أوتار القلوب، وأصبح ذكرها عطرا على كل لسان، اسمها أم كلثوم، وتغنى قصيدته «الصب تفضحه عيونه»، ويكشف «رفعت» أن رامى كتب هذه القصيدة فى حب قديم له عاناه قبل سفره إلى باريس، وكانت الملهمة أجمل سيدة وقفت على المسرح المصرى وهى زينب صدقى، ووصلت الأغنية إلى أم كلثوم عن طريق أستاذها الشيخ أبوالعلا محمد الذى كان من أقرب أهل الفن إلى قلب رامى، وكان «أبوالعلا» مفتونا بشعره يحفظ منه الكثير، ومن بين هذا الكثير اختار «الصب تفضحه عيونه» ولحنها، وقدمها إلى أم كلثوم قبل أن تعرف رامى.
ذهب «رامى» لزيارة أبوالعلا فوجده فى فراشه مفلوجا صبيحة 24 يوليو 1924، لكنه حدث صديقه الضيف عن أم كلثوم، وأنها ستغنى فى حديقة الأزبكية، فهرع رامى ليحجز لنفسه مكانا فى الصف الأول.. تذكر أم كلثوم فى المذكرات التى أعدها محمد رفعت: «كنت يومئذ أغنى بلا تخت ولا موسيقى، كان كل ما هناك منشدون، على رأسهم والدى الشيخ إبراهيم وشقيقى الشيخ خالد، وما إن ظهرت على المسرح حتى همس لى رامى، وكان كرسيه على قيد خطوتين منى، قائلا: «والنبى تسمعينى قصيدتى، فعرفته، وكنت لم أره ولا رأيت صورته أبدا، وقلت له: أهلا يا أستاذ رامى.. حمدا لله على السلامة، وغنيت «الصب تفضحه عيونه».. تتذكر: «بكى رامى، وفى نهاية الحفلة، جاء إلىّ فحيانى، وسألنى عن عنوانى ليزورنى، كنت أسكن يومئذ فى شارع قوله بعابدين أمام قصر عابدين، وكان جوابى أول نكتة سمعها منى: إزاى ما تعرفش بيتى يا أستاذ رامى؟ طيب دا الناس اللى بيبعتوا جوابات للملك فؤاد بيكتبوا على الجوابات: بجوار بيت أم كلثوم».
تؤكد أم كلثوم: «منذ تلك الليلة ارتبط شعر رامى بحنجرتى»..تعترف: «كنت أغنى يومئذ إلى جانب القصائد أغنيات دارجة على مستوى العصر منها «الخلاعة والدلاعة مذهبى» (كلمات يونس القاضى، ألحان، الدكتور صبرى النجريدى) وجرحت لفظا «الخلاعة والدلاعة» أذنه، فسألنى أن استبدلها بكلمتى «الخفافة واللطافة» فاستجبت، ثم سألته: «وليه انت ماتكتبليش أغانى»، قال: «يا ستى أنا مابكتبش إلا شعر»، قلت له: «جرب»، وجرب، وكتب لى أغانى الأولى التى رفعت الأغنية الدارجة إلى مستوى الشعر.. كتب لى: خايف يكون حبك لى، شفقة علىّ» و«الشك يحى الغرام».. ثم «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» تلحين محمد القصبجى، وكانت أكبر نقلة فى حياتى، بل فى تاريخ الغناء المصرى الحديث.. كانت أول أغنية أديتها بمصاحبة الأوركسترا، بعد أن كنت أغنى بمصاحبة التخت وبلا موسيقى، وبيع منها أكثر من مليون أسطوانة بسعر الوحدة 50 قرشا، وكان أجره مائة قرش، وخجل من أن يكون لشعره أجر، فأخذ أسطوانتين للأغنية ليحتفظ بهما».
تواصلت مسيرة رامى مع أم كلثوم، فقدم لها عشرات الأغنيات من أشهرها «سهران لوحدى» و«غلبت أصالح فى روحى»، و«جددت حبك ليه»، و«يا ظالمنى» و«دليلى احتار» و«هجرتك» و«ياللى كان يشجيك أنينى»، و«هلت ليالى القمر» و«أقبل الليل» وغيرها، لكن يبقى لرامى فضل آخر عليها، فكما جاء على لسانها فى كتاب «أم كلثوم معجزة الغناء العربى» للدكتورة رتيبة الحفنى: «جعلنى أتعلق بالشعر، كان يحضر لى دواوين الشعر فأقرأ بصوت عال، فأسمع موسيقى الشعر، وأناقشه فى المعانى، فيضيف إلى ما فهمته، وأحس أننى أغوص إلى أعماق جديدة فى بحور الشعر.. على يديه قرأت الأغانى فى أحد عشر جزءا، وقرأت كليلة ودمنة، وقرأت لكل الشعراء القدامى حتى أننى تمنيت أن أكون شاعرة، وأحس هو بهذا، فقال لى: لا عليك أن تكونى شاعرة، إن تذوق الشعر وحده موهبة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة