لم أتوقف كثيرًا عند السؤال: كيف يستطيع اللبنانيون أن يقيموا مهرجانًا للسينما فى ظل الوضع القاسى الذى يعيشونه؟ ليس لأن السؤال غير مهم، لكن لأنه شغلنى طيلة الأسبوع الذى قضيته فى لبنان بين جونية وضبية، لمشاركتى فى التحكيم بالدورة الخامسة لمهرجان بيروت الدولى لسينما المرأة، وكان بالنسبة لى فى هذه الفترة القصيرة، هو سؤال الساعة الذى يتعلق بوضع بلد يقف بأكمله على مفرق طرق، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، إلا أنه ببعض التأمل وجدت أن الأمر اللافت بالنسبة لى ولغيرى من خارج المجتمع اللبناني، هو عادي.
لا أحب أن أكون نمطية أو أكتب كلمات "كليشيه"، من نوعية أن لبنان على مدار تاريخه الزاخر بالحروب والشدائد، يواجه مصائبه ويحاول أن يولد من جديد كما طائر الفنيق، فهذا كلام مبالغ فيه ويزيد من بؤس أهل البلد، ومع ذلك فالواقع يقول أن ثمة محاولات للإفلات من العُسر الملموس، مثل إرادة جمعية مجتمع بيروت السينمائي، ومؤسسها سام لحود (سيناريست، مخرج، منتج) مع فريقه الذى ينظم المهرجان، واختاروا أن يخوضوا الحياة الشاقة بالفن والسينما على أمل التغيير، يعملون خارج أطر الطائفية التى تنخر فى عظام لبنان والتى أوصلته لهذه الحال.
من هنا يظهر التحدى اللبنانى كأنه فعل عادي، طبيعى أن يحدث، يقول سام لحود موضحًا تجاوز المهرجان الأزمات المتفاقمة فى بلاده:"إذا أمضينا الوقت بالتفكير بالمشاكل فلن نشتغل أبدًا، التحدى الأساسى هو أن نستطيع أن نخرج نفسيًا من الحالة التى نعيش بها".. كلام "لحود" يدفع للحماسة، لكنه هل الحماسة وحدها تكفي؟ واقعيًا لا، فالاحتياج المادى ضرورى وهنا يظهر الجهد المبذول من أجل توفير كل ما يلزم لإقامة المهرجان، خصوصًا فى ظل الغياب العام للدولة أو السلطات الرسمية عن الأنشطة الثقافية والفنية، بينما يظل الحضور الأقوى لجمعيات ومؤسسات ثقافية وفنية، مثل مجتمع بيروت السينمائي.
إذن هذا التحدى يفوق المشهد اللبنانى الصعب وتداعياته، الحياة اليومية المعطلة (الكهرباء، المياه، التليفونات، الإنترنت) والمخاوف الأمنية، سيما عقب انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس 2020)، انهيار الليرة اللبنانية.
هواجس وقلق جديد يعيشه اللبنانيون والنهاية مفتوحة على مصير معلق، ولعل هذه الأحاسيس انسحبت على تجارب الأجيال السينمائية الجديدة، فالأفلام القصيرة التى أنجزها الطلاب وشاركت فى المسابقة، يتداخل فيها العام بالخاص، وإن بدت كحالات فردية، إلا أنها يعتريها هذا الشعور الغامض بعدم الأمان، كما فى (Apnea) إخراج رومى أبو نصر، الفيلم الفائز بجائزة أفضل فيلم لبنانى قصير للطلاب، وهى جائزة تشجيعية تُكلل مجهود ودأب الطلاب ومحاولاتهم الخاصة فى صناعة أفلام تسعى لرسم علامة جديدة فى السينما اللبنانية، الفيلم يعالج بلغة بسيطة رؤية إنسانية بحساسية مرهفة، على مستوى الفكرة أو الصورة وكذلك الأداء التمثيلي، من خلال قصة فتاة تعيش وحيدة فى روتين ثابت، حتى تزورها إحدى صديقاتها تمنحها الشجاعة لإعادة الاتصال بالعالم.
وكذلك نلحظه فى فيلم آخر لم يحصل على جوائز، لكنه يطرح فكرته فى دقيقتين ونصف، بأسلوب يحتاج تركيز كبير فى المتابعة، وهو The Perfect Balance) )، إخراج أندرو داواف، فيلم مثل مرآة، تنعكس فيها مشاعر ومواجهات، يحمل دلالات عدة ما بين الارتباك والأمل، البطلة تعانى من Trauma، صدمة نفسية، لم نفهم أسبابها، هل الوضع الاجتماعى الراهن، أم بقايا وساوس قديمة من جرح الحرب القديم الذى لم يندمل، ولا يزال فى الذاكرة اللبنانية، جيلًا بعد جيل، التفاصيل الذاتية تصنع السرد والذاكرة، وتقنية السرد سريعة والتقطيع أسرع، الموضوع يأت من راهن قاس.
وربما هذا الراهن من أسباب اختيار المهرجان "نساء من أجل القيادة" عنوانًا له، لترسيخ مبدأى تمكين المرأة وتطوير ثقافة السينما المسؤولة على حد سواء، فإضافة إلى عروض الأفلام، أقيم عدد من حلقات النقاش فى هذا الإطار، بما يتناسب مع مهرجان نوعى له فكرة جاذبة، هى فى حد ذاتها دعوة إلى التواصل مع المرأة، مهرجان مفتوح على المرأة: أسئلتها وتحدياتها.. إبداعها وعيشها.. واقعها وهواجسها.. رغباتها وتفاصيل مشاركتها فى الهم الجماعى.
قد يثير ذلك حفيظة البعض، باعتبار أنهم يعترضون على التقسيم على أساس الجنس (التذكير والتأنيث)، لكن لابد من الالتفات إلى أن المهرجان لا يتعامل مع المرأة كعنوان للتركيز على الإبداع الأنثوي، والتعامل معه بحساسية التصنيف أو إقصاء تاء التأنيث فى زاواية منفردة، وإنما لتكريسها كشريك أساسى فى العملية الإبداعية، وفى الواقع الاجتماعي، كما أن تاريخ السينما اللبنانية وإن تضمن حضورًا نسائيًا قليل العدد، إلا أنه مؤثر كما فى مشاريع راندا الشهال، جوسلين صعب، هانيا سرور، وزاد هذا الحضور بأسماء لامعة أخرى مثل: ليلى عساف، جوانا حاجى توما، دانييل عربيد، نادين لبكي، ليال راجحة، زينة دكاش وغيرهن.
هذا السطوع النسائى يمتد إلى الممثلات، كما فى تجربة تقلا شمعون التى كرمها المهرجان، نحو 52 عملًا فنيًا متنوعًا على مدار 30 عامًا من العطاء، خلدت اسمها نجمة لها أسلوبها المميز فى الأداء، وحضورها الخاص لدى الجمهور، وكذلك تأملاتها عن الصورة والروح والجسد، وهو ما عبرت عنه بفطنة فى كلمتها المؤثرة بحفل الافتتاح: " التى تتكرم اليوم مش أنا وأنها لعبت أدوار لم تشبه تقلا ولا حياة تقلا".
وأيًا كانت هذه التأملات العميقة، فإن مشوار تقلا شمعون حافلًا ومازال يحتمل الكثير، كما أن خمسة أعوام مرت على مهرجان بيروت لسينما المرأة، هذا يعنى أنه حقق مساحة لائقة ترافقت مع تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية شهدها المجتمع اللبناني، وهو، بإصراره على تنظيم دورته السنوية رغم كل شيء، يؤكد حرصه على أهدافه وإصراره على ترك أثرًا داخل جغرافيته وبيئته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة