تقدم الموكب أربعة من طلبة الأزهر، أمسك كل واحد منهم بطرف العلم المصرى منبسطا، ووضع الصليب داخل الهلال موضع النجوم فى هذا العلم، وكان خلف الأزهريين، أزهريان أيضا يحملان علما آخر رسم فى أعلاه هلال معانق الصليب، ومكتوب على العلم عبارة تقول «الحرية من آيات الله، الحرية غذاؤنا والاستقلال حياتنا»، وسارت السيدات فى صفين على جانبى الطريق، تتوسطهن واحدة منهن حاملة علم أبيض علامة للسلام وفيه الهلال بلون أحمر، حسبما يذكر الشيخ عبدالوهاب النجار فى مذكراته «الأيام الحمراء» التى تسجل مشاهداته عن أيام ثورة 1919 والتى بدأت شعلتها فى 9 مارس 1919، ويرصد فيها مظاهرة السيدات فى 16 مارس، مثل هذا اليوم، 1919، كتعبير عن مشاركة المرأة فى فعاليات هذه الثورة المجيدة.
يكتسب هذا الحدث أهميته الكبيرة فى تاريخ مصر، لأنه الأول من نوعه بالنسبة للمرأة المصرية التى لم يسبق لها التظاهر، أو الاشتراك بإيجابية فى القضية الوطنية على نحو ما فعلته أثناء هذه الثورة، ويعبر «النجار» عن ذلك بقوله: «لم يسبق لى ولا لأحد أن رأى مثل ذلك قبل هذا اليوم»، يضيف: «بلغ عدد السيدات المنتظمات فى صفين 320 سيدة، وجاء خلف الصفين سبع سيدات، سرن صفا واحدا بعرض الطريق وفى أيديهن عرائض كتبت فيها مطالب المصريين، وفى مقدمتها استقلال البلاد، وطافت السيدات فى موكبهن أهم شوارع القاهرة، وقصدن دور الوكالات السياسية للدول، كما قصدن ميدان سراى عابدين، وكانت حاملة العلم بينهن تهتف لاستقلال مصر وحريتها وبسقوط الحماية الإنجليزية والظلم، فيردد المتظاهرات هذا الهتاف فى حماس، وجميعهن رافعات أيمانهن بأعلام مصرية صغيرة مصنوعة من الورق أو القماش».
شارك فى هذه المظاهرة «عقائل العائلات الراقية من أنحاء القاهرة»، بتعريف عبدالرحمن فهمى فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية»، ووفقا للنجار: «خرج أهل القاهرة أكثرهم رجالا ونساء وأطفالا لمشاهدته»، مضيفا: «كانوا يرددون الهتاف على جانبى الطريق مع الهاتفات، فوقع لذلك دوى شديد جدا، وصادف مرورهن من ميدان الأوبرا بين الجنود الإنجليزية المحتشدة بسلاحها وعتادها الحربى، فلما حاذين فندق الكونتننتال تعرض الجنود الإنجليز للموكب فوقفن، وكثر عدد الأجانب المشاهدين لهذا الموقف، وبعد عشرين دقيقة، فسح لهن الجنود الطريق فسرن حتى وصلن منزل سعد باشا زغلول، فحال الجنود الإنجليز بينهن وبين الوصول إليه ودخوله، وصوبوا البنادق إلى صدورهن، فتقدمت حاملة العلم إلى الضابط الإنجليزى القابضة يده على المسدس، وقالت وهى تكشف صدرها بيدها اليسرى «هذا صدرى فهات ما عندك، نحن لا نهاب الموت، ولتكن فى مصر مس كافل أخرى».. و«مس كافل» هى الممرضة الإنجليزية المشهورة التى أسرها الألمان فى الحرب العالمية الأولى، واتهموها بالجاسوسية وأعدموها رميا بالرصاص، وكان لهذا الحدث ضجة كبيرة فى العالم.
يؤكد «النجار» أن السيدة التى خاطبت الضابط الإنجليزى بشجاعة ظلت واقفة فى مكانها والضابط أمامها برهة رهيبة، انثنى بعدها خجلا خافضا سلاحه هاتفا بعساكره: «أفسحوا الطريق»، يضيف: لبثت المتظاهرات ساعتين فى شارع سعد زغلول، وما حوله من الشوارع فى حال حصار بالبنادق والسونكيات، وترك الجنود الإنجليز لهن طريق الرجوع، وحموا عليهن طريق الوصول إلى منزل سعد باشا فأبين الرجوع وكان لهن ما أردن».
يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 1919» أن السيدات كتبن احتجاجا قبل المظاهرة لتسليمه إلى معتمدى «سفراء» الدول، ثم كتبن احتجاجا آخر على ما حدث من الضابط الإنجليزى، نصه: «جناب معتمدى دولة، قرر السيدات المصريات بالأمس القيام بمظاهرة سلمية، والمرور على دور السفراء لتقديم الاحتجاج الكتابى المرفق بهذا، الذى نتشرف برفعه لجنابكم الآن، وعندما اجتمعن بشارع سعد زغلول باشا، حاصرتهن قوة مسلحة من العساكر البريطانية، ووجهت لهن السلاح حتى لا يتحركن لا إلى الأمام، ولا إلى الخلف، وبقيت السيدات هكذا مدة ساعتين تحت نار الشمس المحرقة.. هذا ما رآه المحتلون من معاملة السيدات، وهو بمفرده وبغير تعليق دال على استمرار الإنجليز فى استعمال القوة الغاشمة حتى مع السيدات لإخماد أنفاس هذه الحركة العامة، التى لم يكن أساسها أى عداء لضيوفنا الأجانب، لأنها موجهة فقط ضد أعمال الاستبداد والقوة التى يقابل الإنجليز بها مطالب الأمة الحقة الشرعية، لهذا يا جناب المعتمد نضم هذا الاحتجاج الثانى لاحتجاجنا الأول، ونرجو إبلاغه لدولتكم الموقرة التى أخذت على عاتقها نصرة مبادئ العدالة والحرية.. وتفضلوا بقبول فائق احترامنا».
وقع على هذا الاحتجاج عشرات من السيدات والآنسات يذكره الرافعى، وأبرزهن، حرم حسين رشدى باشا، حرم سعد زغلول باشا، هدى شعراوى حرم على شعراوى، حرم محمود رياض باشا، حرم إسماعيل صدقى باشا، حرم عمر سلطان باشا، حرم محمد سعيد باشا، حرم الدكتور محمد علوى باشا، حرم محمد شكرى باشا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة