مِنه تَخرج ألسنةُ نيران الحمم البركانية الحارقة، وبه يحتمى الفَارون من ضرباتِ جوية عشوائية لا تُفرق بين طفل وامرأة وكهل..
إنَّه باطن الأرض الذى هرول إليه مئات الأشخاص بمختلف أنحاء العالم ولا يزالوا، هربًا من وابل القصف الذى كان لعام 2022 نصيب وفير منه؛ وتحديدًا عند الحدود الغربية لروسيا على وقع ضَربات مدافع الحرب التى نشبت مع جارتها أوكرانيا، وكانت هى الأشد وطأة فى العام الذى نحن بصدد وداعه؛ فنزيف الخسائر الناجمة عن تلك الحرب لا يزال مستمرًا، وهناك أكثر من 7 ملايين لاجئ عبروا الحدود الأوكرانية ـ وفق بيانات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين ـ ولا تزال أدخنة نيران الحرب التى اشتعل فتيلها فى فبراير الماضى تتصاعد فى عملية عسكرية غير معلومة المدى، فهى تدور فى فلك صراع قديم حديث بين الشرق بزعامة روسيا والغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ما ينذر بتحولها إلى حرب عالمية ثالثة.
لقدد اتسم عام 2022 بتجدد صراعات كلاسيكية، وكان الاقتصاد الضحية الرئيسية لجنون سباق التسلح فإلى جانب الصراع الروسى الأوكرانى، أطل صراع الصين وتايوان برأسه مجددًا على وقع زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسى بيلوسى إلى تايوان فى أغسطس الماضى، والصراع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ، كما عادت المناوشات بين الكوريتين، إضافة إلى النزاع المسلح فى إقليم تيجراى بإثيوبيا.
"أُمى اسرعى لنختبئ فالقصف بدأ".. تلك العبارة التى رددها مئات الأطفال خلال 2022 ليس فى أوكرانيا وحسب؛ بل فى عشرات البقاع التى تشهد صراعات مسلحة حول العالم فأضحى ثلث أطفال العالم يعايشون تلك المآسى، وأُجبروا هؤلاء على العيش وسط الأنقاض وأصوات القصف المدوية، فى مواجهة شبح الموت بكل لحظة أو خوض رحلات نزوح شاقة إلى المجهول.
وعلى الرغم من كون الصراعات ليست أمرًا جديدًا، فقد لازمت الإنسان عبر مراحله المختلفة، والتاريخ يُخبرنا بأطول حروب عاشتها البشرية دام بعضها عشرات السنوات؛ منها الحروب النابليونية، وحرب فيتنام التى لن تُمحى من ذاكرة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استمرت 19عامًا وانتهت بفشل القوات الأمريكية، إلا أن الصراعات التى تخللت عام 2022 كان لها وقع مختلف، فقد ترتب عليها عديد من المآسى والأزمات طويلة الأمد، من بينها أزمة غذاء طالت الكثير من الدول مع تسارع وتيرة التحذيرات من قفزة غير مسبوقة فى أعداد البطون الخاوية؛ فوفق إحصائيات برنامج الأغذية العالمي، هناك ما يقارب الـ 45مليون نسمة فى 43 دولة أضحوا على حافة المجاعة.
وعَلى مسافة ليست ببعيدة عن تلك الحرب، هناك حرب أخرى تَدور رحاها، إنها حرب الأوبئة التى تستنزف الشعوب، فلا يزال فيروس كورونا يُباغتنا من حين لآخر بأسلحته المختلفة، متسترًا وراء العديد من المتحورات.
أَضف إلى كل هذا، التغيرات المُناخية التى أضحت هى الأخرى خطرًا لا يقل فتكًا ببنى البشر عن الحروب، فقد كان 2022 عامًا حافلًا بالكوارث الطبيعية متفاوتة الخطورة، والتى أودت بحياة آلاف الأشخاص في مختلف أرجاء العالم، فمن بين 50 مليون شخص فى 79 دولة، لحقت بهم أضرار ناجمة عن 187 كارثة طبيعية وقعت خلال النصف الأول فقط من 2022، لقى حوالى 6347 شخصًا حتفهم، بالإضافة إلى خسائر مادية تجاوزت قيمتها 40 مليار دولار، بحسب تقرير مشترك لمركز أبحاث الأوبئة والكوارث "سي آر إي دي" (CRED) والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
وقد انفرد 2022، بمشاهد حصرية لتلك التغيرات المُناخية العنيفة، ربما البعض منا تابع عبر نشرات الأخبار فيضان باكستان ـ على سبيل المثال ـ وهو أسوأ فيضان في تاريخها منذ 30 عامًا، إضافة إلى أشد موجة جفاف شهدها كل من العراق منذ 9 عقود والمغرب منذ 4 عقود، وتذهب التقديرات إلى أن الخسائر المادية الناجمة عن التغير المناخى في البلدان النامية ستتراوح قيمتها بين 290 مليار دولار و 580 مليار دولار، بحلول عام 2030.
2022..عامُ امتزجت فيه روائح العطور الأوروبية الأنيقة بأدخنة نيران المدافع وحرائق المنازل والمحال التجارية التى كانت بالأمس بهجة أعين المارة بالطرقات، وتداخلت صرخات الأمهات الثكلى اللائى فقدن أطفالهن فى الحرب مع نغمات الموسيقى الرائعة، فعلى الرغم من الحرب الضروس الدائرة فى الشوارع الأوكرانية، إلا أن بداخل ستوديوهات الرقص فى مدينة إربين قرب العاصمة الأوكرانية كييف كانت هناك مجموعات من الأوكرانيين يرقصون رقصة الحب الشهيرة الأرجنتينية الأصل "التانجو"، تلك الرقصة التى يعود تاريخها لمنتصف القرن التاسع عشر وأعلنتها منظمة اليونيسكو عام 2009 جزءًا من التراث الثقافي الإنساني، وكانت رمز ومصدر البهجة وسط الحياة الشاقة، حيث وُلدت تلك الرقصة فى الساحات التى يقطنها الفقراء.
لم تكن "التانجو" إحدى الأدوات المساعدة على التعافى النفسى والتكيف مع أجواء الحرب للأوكرانيين فحسب، بل حتى فى البلدان العربية التى غيرت الحروب ملامحها، فعلى سبيل المثال، كانت أصوات موسيقى التانجو تصدح من نافذة مدرسة "Dance With Me"الكائنة بمدينة اللاذقية فى سوريا، رغم الصراع العسكرى وتواتر أنباء القتل والعنف، لتُعلن قوة الحياة انتصارها على قسوة الموت، وأيضًا دمشق بالرغم من جروحها النازفة، إلا أنها لاتزال ترقص وتغنى احتفاءً بأعياد الكريسماس وبداية عام جديد.
لطالما كانت الموسيقى ولا تزال أداة الإنسان للإعلان عن وجوده وإثبات أنه مفعم بالحياة، وأن اليأس والموت لن ينالا منه، فالموسيقى لغة تتجاوز الحدود السياسية أو الاجتماعية، كما كانت على مر التاريخ سلاحًا في الحروب لمقاومة شبح الموت الذى يُحاصر الشعوب، وكما قال الموسيقار الروسى دميترى شوستاكوفيتش، أشهر موسيقيي القرن العشرين، مُلخصًا تجربته "لقد كانت الموسيقى سلاحى"، حيث كتب شوستاكوفيتش سيمفونيته السابعة الشهيرة "لينينجراد" في الأسابيع الأولى من الحرب العالمية الثانية، وفى عام 1942 تحديدًا فى التاسع من أغسطس عُزفت سيمفونية" لينينجراد" بمدينة لينينجراد التى استمر حصارها 872 يوما، ورغم أن غالبية السكان وقتذاك ماتوا جوعًا إلا أنَّ شوستاكوفيتش أصر على عزف السيمفونية، وقام بالعزف آنذاك أوركسترا مكون من عدد قليل من الموسيقيين ممن تبقوا على قيد الحياة في المدينة.
أيامُ تُشبه الأيام..فها هو أليكس هوك، ذلك الجندى الأوكرانى الذى رقص بجوار الدبابة حاملًا سلاحه، ليُرسل رسالة طمأنة لأسرته أنه لا يزال حيًا ولم تلتهمه نيران الحرب، وها هو العجوز "فيكتور" الذى قرر العزف على آلته الموسيقية القديمة في شوارع خاركيف تحت نيران القصف الروسى، وحينما سُئل فيكتور ـ فى لقاء مع وكالة الأنباء الفرنسية ـ عن سبب قيامه بذلك ـ قال إن" الموسيقى مصدر البهجة التى تنقصنا.. أحاول بث رسالة نشر السلام بالعالم."
وفى عدة مدن أوكرانية قُدمت عروض غناء مجانًا للشعب من خلال الغناء والعزف على البيانو أو الجيتار داخل محطات مترو الأنفاق، وأمام محطات السكك الحديدية ومعسكرات النقل المؤقتة.
كُل تلك اللقطات تؤكد حَقيقة لا ريب فيها..إنَّ أعظم مشاهد الإنسانية تخرج من رحم الحروب، لتُذكرنا دائمًا بأن وحشية الصراعات والحروب ودموية فصولها لم ولن تستطيع محو إنسانيتنا التى جُبلنا عليها.. ربما تتوارى خلف أعمدة الدخان المتصاعدة فى سماء مدن دمرتها تلك الصراعات، لكنها ستظل باقية بقاء البشرية، أملًا فى أن تشرق شمس السلام مانحةً دفئها للعالم المرتعش من البرد القارس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة