طفرة كبيرة حققتها التيارات اليمينية في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، بدأت مع الصعود الكبير إلى رأس السلطة في بعض الدول تارة، على غرار المجر وبولندا، بينما حصلت أحزابها على أعداد غير مسبوقة من المقاعد البرلمانية في دول أخرى تارة ثانية، منها ألمانيا وفرنسا، في حين تأرجحت بين هذا وذاك في مجموعة ثالثة من الدول، وهو ما يبدو في النمموذج الإيطالي، عندما تمكن "أقصى اليمين" من المشاركة في حكومة ائتلافية في 2018، ثم تراجع بعد ذلك في أعقاب حلها بعد ذلك بحوالي عام، ليعود اليمينيين مجددا من الباب الوسع، إلى رأس السلطة، بعد الانتصار الذى حققوه ليشكلوا حكومة جديدة برئاسة جورجيا ميلاني.
والمتابع لصعود تيارات اليمين المتشدد في أوروبا، يلحظ ارتباطه بالمستجدات الدولية، حيث شهد زخما كبيرا في منتصف العقد الماضي، مع صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2016، بفضل الدعم العلني الكبير لهم، خاصة مع توافق الرؤى القائمة على مناوئة حالة الاتحاد في القارة العجوز، إلى الحد الذي لعب فيه دورا بارزا في خروج بريطانيا "الخشن" من الاتحاد الأوروبي، والسياسات المناهضة للهجرة والحدود المفتوحة، والدعوة إلى احترام حالة الخصوصية الوطنية التي تحظى بها كل دولة، بينما تراجعت وتيرتهم جزئيا مع تفشي فيروس كورونا، والخطاب الذي تبنوه للتقليل من شأنه، مما ساهم في انتشاره بصورة كبيرة إلى الحد الذي عجزت فيه عن احتوائه، رغم ما تملكه تلك الدول من إمكانات كبيرة، ثم الاطاحة بترامب في أمريكا وعودة الديمقراطيين إلى السلطة، في ظل مواقفهم التقليدية الداعمة لأوروبا الموحدة، ومبادئها، وهو ما ساهم في تعزيز شوكة الساسة التقليديين، مرحليا، والذين سيطروا على مقاليد الأمور لسنوات طويلة في العقود الماضية.
إلا أن الأزمة الأوكرانية، ربما وضعت معطيات جديدة، للحالة "اليمينية" في القارة العجوز، لتعيدها إلى الواجهة مجددا، على غرار إيطاليا وقبلها بأيام في السويد، حيث تمكن "اليمين" المتشدد من تحقيق نتائج كبيرة في الانتخابات التشريعية، ليزاحم الحزب الحاكم هناك (الديمقراطي الاجتماعي)، والذي يسيطر على مقاليد السلطة في البلاد منذ ما يقرب من قرن من الزمان، ليعود "شبح" اليمين مطاردا الاتحاد الأوروبي بقوة، بعدما توارى جزئيا في أعقاب أزمة كورونا.
الصعود اليميني الجديد في أوروبا، وارتباطه بالمشهد الأوكراني، يمثل في جزء منه حالة من التمرد الشعبي على سياسات الحكومات الأوروبية التي اعتادت الدوران في فلك واشنطن، خاصة مع زيادة تدفق اللاجئين القادمين من أوكرانيا هربا من نار الحرب المشتعلة هناك، وهو ما يمثل تكرارا للأوضاع في 2016، بعدما زاد أعداد المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط إثر تدهور الأوضاع في بلادهم جراء "الربيع العربي"، وهو ما ترك تداعيات سلبية كبيرة على الوضع الاقتصادي للمواطنين، وساهم في زيادة معدلات البطالة ناهيك عن تنامي الخطر الأمني آنذاك بسبب تسلل عناصر متطرفة إلى أراضيهم، وهو ما دفع إلى حالة من الخروج الشعبي على الساسة التقليديين نحو التيارات اليمينية، كما في النماذج المذكورة سلفا، أو اللجوء إلى أحزاب وليدة، مازالت برامجها غير واضحة، كما هو الحال في فرنسا، عندما صعد الرئيس إيمانويل ماكرون إلى عرش الإليزيه، في 2017، من رحم حزبه "الجمهورية إلى الأمام"، الذي تأسس قبل انتخابه بعدة أشهر.
بينما يبقى الجديد في المشهد الإيطالي، متمثلا في ارتباطه ليس فقط بالوضع في الداخل، وإنما في سياسات الدولة الخارجية وشكل تحالفاتها، في إطار حالة من الخروج الشعبي في أوروبا ليس فقط على الساسة التقليديين أو حتى حالة الاتحاد على المستوى القاري، ولكنها امتدت أيضا إلى الحليف الأمريكي، في ظل التقارب بين تيارات اليمين المتشدد وروسيا، وهو ما يساهم، ولو جزئيا في تخفيف تداعيات التوتر بين الدولة (إيطاليا) من جانب وموسكو، مع تواتر الأزمات واقتراب الشتاء وتفاقم أزمة الطاقة بسبب انقطاع الغاز، خاصة وان الزمرة الحاكمة لن تبدي التزاما كبيرا بقواعد أوروبا الموحدة، فيما يتعلق بالعقوبات أو الضغوط التي تسعى أمريكا وحلفائها فرضها على الجانب الروسي، خاصة مع استمرار التخلي الأمريكي عن الحلفاء، في دول المعسكر الغربي، وغياب الدعم الذى طالما قدمته لهم لعقود طويلة، مقابل الدوران في فلكها، منذ حقبة الإدارة السابقة.
وهنا أصبح صعود اليمين في إيطاليا قابل للانتشار في مختلف أنحاء القارة، إذا لم تشهد سياسات الحكومات الخارجية تغييرا، فيما يتعلق بعلاقاتها مع المحيط الدولي، في ظل ارتباطها الوثيق بالازمات التي ستطال لا محالة حياتهم، وهو ما يبدو في الارتفاع الكبير في وتيرة التظاهرات والاضرابات، سواء إسبانيا أو هولندا أو ألمانيا أو غيرهم، وهو الأمر الذي دفع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، إلى التأكيد على أنه "لا سلام ولا استقرار في أوروبا بعيدا عن روسيا"، وهو التصريح الذي يمثل مغازلة صريحة، من قبل المرأة التي عرفت بمواقف كبيرة داعمة للاتحاد الأوروبي، بينما حملت في مراحل عدة عداءً صريحا لموسكو.
وهنا يمكننا القول بأن اليمين المتشدد في أوروبا شهد العديد من الطفرات في السنوات الماضية، ارتبطت في جزء منها بالخروج على سياسات الداخل، ثم امتدت إلى المستوى القارى، عبر التمرد على أفكار أوروبا الموحدة، بينما صارت مؤخرا بمثابة محاولة لإعادة هيكلة التحالفات الأوروبية والتحول نحو مزيد من الاستقلالية، ليس فقط على مستوى الداخل عن المحيط القارى، وإنما على مستوى العلاقات الدولية بصورتها الجمعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة