ناهد صلاح

أنشودة الجندي.. "سأعود يا أمي"

السبت، 18 سبتمبر 2021 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
 
(1)
 أنشودة الجندي من الأفلام التي استوقفتني كثيرًا، حين شرعت في كتابي "أفلام الحب والحرب"، منذ نحو عامين، ربما لأن مخرجه السوفيتي جريجوري تشوخراي قدم الحرب العالمية الثانية التي إنتهت منذ 14 عامًا، بعين فنان إختبر الحرب وطوّقته تفاصيلها دون أن تنتزع إنسانيته، فحوّل فيلمه من النمط المعتاد للفيلم الحربي إلى ملحمة إنسانية، واستبدل البطل الذي يقطر حماسًا لتحقيق النصر على الأعداء، بشخص شاب بريء إنسانيته مهدرة على مفترق طرق الحرب.
أكاد نسمع قلب الأم يخفق باسم "أليوشا"، وهي تنتظره على أول الطريق؛ ابنها الذي خرج من تضاريس المكان ولم يعد، الصبي الصغير صار جنديًا ومحاربًا في براري امتثلت للحرب وإيقاعها الوحشي، يُمنح تصريحًا لزيارة والدته بعد أن قام بمفرده بشنّ دبابتين للعدو، أثناء رحلته إلى قريته، يواجه أليوشا الدمار في بلده الذي مزقته الحرب، لكن ثمة بصيص من الأمل يراه بين الناس، وغالباً يكون هو صانع هذا الأمل الذي يتأكد حين يصادف الحب ويعيشه مع فتاته البريئة، صور بصرية شاعرية ينقلها المخرج جريجوري تشوخراي؛ فيصنع من هذا الجندي أغنية هي بمثابة تأمل غير تقليدي عن آثار الحرب، وعلامة فارقة في السينما الروسية.
  (2)
كلما رغبت في مشاهدة فيلم "أنشودة الجندي"، داهمتني أغنية "كاتيوشا" كأنها تتخفى في طيات الفيلم، وتتقاسم معه نبض مرحلة جامحة من العواطف التي عُلقت على جرس الحرب والموت والأمل في النجاة، فالأغنية الشعبية ذائعة الصيت في روسيا التي لحنها الموسيقار ماتفيه بلانتير وكتبها الشاعر ميخائل إيساكوفسكي، كانت تُغنى أيام الحرب العالمية الثانية، وتحكي عن صبية تنتظر حبيبها الجندي الذي يخدم بلاده في الجيش، ثم رافقت الضباط السوفيت في جبهات الحرب، رمزاً للوفاء والصمود لأولئك الذين قاتلوا في الحرب وحبيباتهم اللواتي انتظرن عودتهم.
  الفيلم الذي كتبه مخرجه مع فالنتين إيزوف وصدر في العام 1959، يعتبر واحدًا من الأفلام المفصلية في تاريخ السينما السوفيتية، سواء على مستوى موضوعه الذي اتكأ على حالة من الحالات الوجدانية خرجت من قلب الحرب العالمية الثانية، أو على مرئيته البصرية المتقنة في انسيابية، ساردًا حكاية هؤلاء الجنود الذين حملوا فراشات الحب والبندقية سويًا ورحلوا إلى تلال المعارك؛ تستدرجهم الحرب إلى القتال وأفعاله الثقيلة، لكنها لا تلغي بداخلهم نشيد الحنين إلى حياة بسيطة يشاركونها مع أحبتهم، تقول أغنية "كاتيوشا"، وهي بالمناسبة تصغير اسم "كاترين"؛ وسميت منصات إطلاق الصواريخ باسمها "كاتيوشا":
أيتها الأغنية، الأغنية الساطعة عن الصبية العذراء
طيري إلى حدود الشمس، طيري مثل طائر
إلى الجندي البعيد عند الحدود
من كاتيوشا أوصلي السلام
لعله يفكر بالعذراء القروية
لعله يسمع أغنية كاتيوشا
وكما يحرس أرض الوطن العزيز
سوف تحرس كاتيوشا حبهما إلى الأبد.
     يمتلك فيلم "أنشودة جندي" غنائية أخرى تتدفق في صورته الشفيفة كما لو كانت تُجَبِر كسور اللحظة الحاضرة، وهو ما يفعله جندي صغير سار في رحلته بنقاوة وشجاعة، "أليوشا" ذو التسعة عشر عاماً، يجسده فلاديمير ايفاشوف (28 أغسطس  1939 - 23 مارس 1995)، كان مجرد فتى بريئًا وعفويًا حين إلتحق بالجيش، لكنه خاض حرباً صعبة واصطاد دبابتين ألمانيتين وأصبح بطلًا في ساحة المعركة، أليوشا بطل حرب شجاع، لكنه بطل من نوعية أخرى إستحق ميدالية لتكريمه، مع ذلك فهو لا يبالي بها ويطلب من قائده بدلًا منها إجازة ليعود إلى قريته كي يرى أمه ويصلح لها سطح البيت، فيسمح له قائده بيومين فقط ويبدأ رحلته إلى قريته حيث ينخرط في قصص كثيرة لا تخصه وإن جعلته يعيش أنواع مختلفة من حالات الحب التي نمت على ضفاف الحرب، حتى هو شخصيًا يحالفه الحظ في حب عابر يحط على قلبه ويمتثل لإيقاعه؛ هذا غير حب أمه الذي يزيد من رهافة الحكاية، لقد مكنته أيضًا رحلته القصيرة هذه من أن يكتشف ذاته بشكل أعمق ويتعلم أشياء كانت ستفوته لولا هذا المشوار.
(3)
     يبدأ الفيلم بمشهد لامرأة في منتصف العمر؛ تسير شاردة حتى أنها لا تنتبه لسرب البطات البيضاء والصبايا الجميلات اللاتي يلهون بإيقاع حر على طريقها، لا تلحظ نظرة الشفقة والعطف من تلك المرأة العابرة التي تحمل صغيرها وتسير بجوار زوجها؛ حين تقاطعت خطواتيهما فيما تجاهلتها المرأة الشاردة، إذ استمرت في سيرها إلى أن وقفت على طرف الكادر؛ فانسحب ظلها معانقًا الأرض ومرتبكًا، عكس جسدها الثابت على خط واحد ممتد مع الطريق الترابية الطويلة أمامها؛ حيث راحت تحدق في فراغ البرية الجميلة والغامضة كأنها في حلم يقظة يدور مع حركة السحب فوق رأسها، وصوت المعلق يتسلل إلى المشهد ويحكي عن أولئك الذين يغادرون القرية وهؤلاء الذين يعودون إلى مسقط رأسهم، والاثنان يمشيان نفس هذه الطريق الطويلة، ثم يقول عن المرأة الصامتة كما نراها في طرف الكادر:"هي لا تنتظر أحدًا.. الذي إعتادت إنتظاره هو ابنها أليوشا ولم يرجع من الحرب، هو دُفن بعيدًا عن مكان ميلاده، بالقرب من مدينة أجنبية، يجلب الغرباء الزهور إلى قبره، إنهم يطلقون عليه جندي روسي بطل، لكن بالنسبة إليها هو ابن بسيط تعرف عنه كل شيء منذ يوم ولدته، إلى هذا اليوم الذي غادر فيه هذه الطريق الطويلة أمامها".
  غريبة هذه المرأة التي تنتظر ابنًا غائبًا لا يعود؛ وغريب هذا الابن الطيب الذي نراه على مدى إتساع حدقة عين أمه وحركة كاميرا سريعة، خائفًا في خندق هناك بعيد على الجبهة الشرقية، فزعًا يركض بأقصى ما يستطيع وهو يحاول الهرب من دبابتين تتبعان القوات الألمانية، يبدو ضعيفًا لا يتقن الحرب وأفعالها، وليس في وسعه سوى الفرار؛ حتى أن رفيقه ينسحب من فرط خوفه ثم يُصاب ويقع أرضًا، ليبقى الابن "أليوشا" وحده مضطرباً ومطاردًا؛ القصف يحاصره وإحدى الدبابات تكاد تصرعه وهو لازال يواصل فراره من ملاحقتها، مسكين لا يملك إلا بندقية صغيرة مثله، إلى أن يرتمي في خندق أخر فيجد بالصدفة مدفعًا بجوار جندي ميت، يرفعه بسرعة ويطلق قذائفه على الدبابة فيدمرها وهكذا نتابعه يقصف الدبابة الأخرى، بتصوير سينمائي نابض بالحياة وينقل بتقنية محترفة التحولات النفسية لـ"أليوشا" من خوف وذعر إلى إبتسامة هيستيرية بعد ما واجه هذا الموقف الصعب، يستوقفنا أنه ليس فيلمًا تقليدياً عن الحرب؛ صحيح أنه في الجبهة عقب مشهد قتالي، لكن أليوشا الصغير ليس معتركاً؛ يسأله قائده أمام زملائه: 
- أخبرنا ما حدث؟
- يجيبه بغريزية الأنقياء: سأكون صادقًا.. كنت خائفًا، كانوا قريبين جدًا وكنت خائفًا!
- هل يمكن أن يكون فعلها أحد غيرك؟
- لا ..!
  يضحك الجميع، ثم يقول قائده: ممتاز، تستحق ميدالية، لكن أليوشا يعتذر عن الميدالية ويطلب منه زيارة أمه، فيندهش القائد وينظر إليه بحنو بالغ وهو يسأله عن عمره، فيجيبه: "19 عامًا.. لما غادرت لم يتسنى لي أن أودع أمي، وتسلمت منها رسالة مؤخرًا تبلغني أن هناك تسربًا في سقف البيت، سأذهب لأصلحه"، يخبره القائد أن الجميع هنا يتمنون العودة، لكن لا أحد يستطيع مغادرة الجبهة، ويقول: كلنا جنود يا بني، إلا أن الفتى يرد عليه لم أطلب إستراحة يا سيدي، فيوافق القائد ويمنحه يومين فقط.
   اللقطات الافتتاحية نجد فيها إصرارًا بصريًا على تأكيد الجماليات؛ هو عزم يمتد على مدار الفيلم ويستند إلى نوع من التكثيف المتعمد لاستغلال العناصر المرئية بكل أشكالها؛ فإذا كانت المقومات الدرامية للعمل تحدد فكرة أنه لا فكاك من مصير البطل في مواجهة أحداث أكبر من قدرته وخارجة عن إرادته، فإن منوال الفيلم يؤكد ذلك ويثبته؛ خاصة حين ينتزع "أليوشا" إلى منخفضات ومرتفعات درامية طوال الرحلة، وهو يسعى بكل ما في وسعه كفتى متوقد ومرهف كي يعود إلى قريته.
(4)
 سيارة الجيش التي تقله تتوسط مشهد أخاذ للجنود وهم يجتازون بركة مياه مع معداتهم الحربية، ثم يتحول بعضهم إليه ليساعدونه في إخراج السيارة التي غرزت في وحل البركة، وإذا بأحدهم وهو "بافلو" يهرول نحوه ويسأله عن وجهته قبل أن ينبئه بأنه سيعبر مدينته، ويقنعه بأن يمر سريعًا على زوجته برسالة تطمئنها، وأن يعطها قطعتين من الصابون؛ هذا ما استطاع أن يوفره لها كهدية بمساعدة رفاقه في هذا المكان النائي، لكن هذه الهدية التي تبدو متواضعة تدل على مدى شظف العيش الذي كانت تعيش فيه زوجته وعائلته.
يلتحق بالقطار المتوجّه إلى بلدته البعيدة، لكن الطريق تفاجئه بحسابات أخرى لم تخطر على باله وهو يهرول في سفره، هنا يصبح "أنشودة جندي" نوعًا ما فيلمًا من أفلام الطريق، يرصد أوجهًا من الدمار الذي أحدثته الحرب على البلاد: محطة القطار المزدحمة بالفقراء، الناس البائسة، البيوت المهدّمة أو المنهوشة بالحرمان والضنك، مفردات تعبر عن الوضع الاجتماعي لبلاد في حالة الحرب، كل هذا تحصيل الحاصل تنقله الكاميرا ليكون مرئيًا.
   المدة التي نالها للعودة إلى قريته البعيدة وجيزة وعليه أن يسرع، لكن وقته الضيق صار موزعًا لمساعدة الآخرين، حيث يلتقي مجموعة متنوعة من الناس في طريقه، إذ يمثلون كل جزء من الاتحاد السوفيتي، يركض بين المحطات كطفل في رداء عسكري، حتى يصادف "شورى"، جسدتها الأوكرانية زانا بروخورينكو (May 1940 – 1 August 2011 11)، تجمعهما رومانسية ومحبة تزهر على مهل، كما يصادف عجوزًا تقود شاحنة متهالكة في مشهد مؤثر تخبره فيه عن ابنها المحارب في الجبهة، ثم تردف بصوت يتمازج فيه الحزن والسخرية بأنها تتساوى في العُمر مع سيارتها التي يساعدها أليوشا كي يخرجها من الطين، وتلك الفتاة التي سألته قبل أن تموت إثر القصف الألماني، إذا كان لديه حبيبة؛ ولما سمعت صوت القصف ظنت أنه صوت الرعد.
   (5)
 أليوشا مشغول جدًا بمساعدة الآخرين الذين صادفوه، بدا كما لو كان رسولًا لهؤلاء التائهين، لكن دوره الرسولي الذي مارسه بالصدفة؛ جعله يتأخر في الوصول إلى أمه التي تنتظره بولع، ولما يصل إلى المنزل في النهاية، ليس لديه ما يكفي من الوقت ليقضيه معها، فهناك شاحنة تنتظره لتقله كي يعود إلى الجبهة، بينما يركض الابن والأم نحو بعضهما البعض ويصعد الإيقاع الموسيقي، ثم يأت إحتضانهما الصامت المفاجئ، ترتفع وتيرة هذه اللحظة الفعالة حين تجهش الأم بالبكاء وتقول:" لم أنتظر والدك، لكني سأنتظرك أنت"، تلتف حوله كل نساء القرية يستعطفنه أن يبقى ولو قليلًا، فيركض نحو الشاحنة وهو يصرخ: "سأعود يا أمي"، لكنه لا يعود ولا تزال أمه تنتظره كل يوم فوق هذه التلة في بداية الطريق الترابية الطويلة التي لازالت على حالها، تضم يداها أمامها كصمود المُجْبَرين في واحد من أجمل الأدوار التي قدمتها الممثلة الروسية أنتونينا ماكسيموفا(7 نوفمبر 1916- 4 أكتوبر 1986).
        دراما إنسانية صغيرة تنبض بالحياة، وتصنع تأثيرها العاطفي للحرب على المدنيين الأبرياء والجنود خارج ساحة المعركة، تركز على جندي واحد بدلًا من الاحتشاد الكبير بالشخصيات والأفعال، من هذه الزاوية المفتوحة كذلك على فضاء فني حافل وصنيع سينمائي لافت، صارت الدراما الصغيرة جوهرة كبيرة في السينما العالمية وحصل الفيلم على العديد من الجوائز:  مهرجان كان السينمائي، جائزة لجنة التحكيم الخاصة في العام 1960، جائزة البوابة الذهبية لأفضل فيلم وجائزة البوابة الذهبية لأفضل مخرج  من مهرجان سان فرانسيسكو السينمائي الدولي الخامس (1960)، جائزة     BAFTA لأفضل فيلم من أي مصدر(1961)، جوائز  Bodil لأفضل فيلم أوروبي عام 1961، كما حصل الفيلم على جائزة لينين في عام 1961، وكذلك حصل مخرجه ومنتجه على نفس الجائزة.
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة