يعتقد (ستانسلافسكي): أنه يجب على الممثلين أن يصدقوا باحتمالية الأحداث فى حياتهم الخاصة، قبل أن يتمكنوا من تصديق الأحداث على خشبة المسرح، وقد كان يعرف الطريقة الأولى للتعبير عن الحياة الانفعالية الصادقة للشخصية تكون من خلال الملاحظة والخيال واستخدام الحواس وأن يستدعى الممثل ويجتذب الانتباه إلى كل شيء يواجهه ليكتشف جوهره الحى وهذه الطريقة معروفة باسم (الذاكرة المؤثرة) أو (الانفعالية)، وهى عملية يختار بها الممثل الانفعالات من خبرات حية مشابهة لتلك الشخصية ويستغل مطابقة أو ازدواج الأحاسيس الانفعالية داخل الدور، إن التذكر أو الاستدعاء الانفعالى يؤدى إلى الإلهام الذى يستخدم بواسطته الممثل أفضل ما بداخله ويحمله إلى فوق خشبة المسرح.
ولأن النجم الكبير خالد الصاوى هو واحد من الفنانين العتاة فى أدائهم بحكم أنه قادم من خلفية مسرحية ولدت فيه عشق فن التمثيل الحقيقى فقد اجتهد كثيرا فيما يسمى (فن المعايشة) على مستوى الابتكار وليس الاستعراض المسرحي، كما يظن البعض فى أدائه على الشاشة، وهو بحكم مراقبتى لأعماله يجيد التفريق ما بين المعايشة وبين فن الاستعراض، وتأسيس منظومة واضحة المعالم يستخدمها فى أدائه، كما بدا لنا ساحرا فى قلب الدراما التليفزيونية المصرية مؤخر، ويبدو لى أنه يدرك تماما معرفة الظروف المصاحبة لولادة منهج المعايشة فى الأداء التمثيلى - والذى ارتبط باسم ستانسلافسكي، وأصبح العلامة الأبرز المحددة للمدرسة الواقعية الروسية - فى شكل الأداء التمثيلي.
خالد الصاوي، الممثل المبدع فى أدائه خلال الموسمين الرمضانيين الآخرين يكره النظرة الشديدة للسطحية والخاطئة للفن التمثيلي، وينادى دائما بحرية الأداء العقلى والتعبيرى المرتبط بقوانين فنية، لأنه يوقن أنه من الخطأ الاعتقاد - كما يقول ستانسلافسكي- أن الفنان له مطلق الحرية فى أن يفعل كل ما يحلو له، هذه حرية الطغاة، لذا يعتبر أن حرية الإبداع كانت مؤسسة بالاعتماد على قوانين الحياة والطبيعة المادية والروحية للإنسان، هذا وتعود جذور هذه المنظومة إلى بذور واقعية (شيبكين) وهو أفضل فنانى هذا الاتجاه فى المسرح العالمى فى زمانه، إلا أنها تطورت وازدادت غنى حاليا كما يبدو فى أداء خالد الصاوى الساحر فى فتنة وبهاء.
ظنى أن الصاوى يعتبر ظهور المشاعر الإنسانية العفوية فى أداء الممثل على قدر كبير من الأهمية، لذا فقد تعامل مع المشاعر الإنسانية الحقيقية المعاشة من خلال تجسيده لدور ضابط الأمن الوطنى (عادل) فى مسلسل (القاهرة كابول) فى حضور آسر، وبهذا اعتبر أن أسلوبه فى تجسيد الشخصية كان الأكثر مناسبة للتأثير على مشاعر الجمهور وتنفيذ الأهداف الأسمى للفن، وهو الأمر الأكثر أهمية فى منظومته الأدائية والذى عبر عنها بما يسمى بالهدف الأسمى، فليس أداء مدهشا، ولا حماسة وحركة خارجية، بل مشاعر داخلية عميقة وأفكارا ظهرت فى الشكل الداخلى للشخصية قبل الشكل الخارجي، لهذا بدا أكثر عفوية وبساطة، ولكنه عميق بتأثيره فى المشاهد طوال حلقات اتسمت بالأحداث الساخنة والمفارقات المذهلة بين أصدقاء الطفولة الأربعة الذين تحولوا إلى غرماء فى زحمة الأحداث.
قدرة الممثل وتميزه تبدو لى من طريقة أدائه الانفعالي، خاصة فى أدواره التى تميل للقسوة والسادية كما ظهر فى دور (عابد تيمور) فى مسلسل (إللى مالوش كبير) وكذلك بشخصية (جلال أرسطو) فى مسلسل (ليالينا 80) العام الماضي، ويبدو لى الصاوى فى كلا الدورين على اختلافهما من حيث الشكل والمضمون أنه ممثل حامل للمعرفة الإنسانية التراكمية، وهى ليست مجزأة، بل هذه المعرفة تتكون من عناصر كثيرة تمثل الطريقة والمنهج الذى يمثل السلوك الإنساني، من خلال التجارب والمعارف المكتسبة ذاتيا ومن الآخرين، لذا فإن قيامه بإعادة تجسيد سلوك الإنسان فى كلا الدورين إنما يهدف إلى خلق صورة معبرة ومتكاملة، وهذا ما يشكل جوهر فن التمثيل.
سيكولوجية الممثل (خالد الصاوي) وجسده فى وحدتهما يشكلان فى الوقت نفسه موصل الإبداع ومادته، فهذا الممثل وهو يقف أمام الكاميرا يتشكل من متعدد، الإنسان العادى وهو مثل المشاهد الذى يقصده، والإنسان المتخصص (الفنان) وهو هنا يمتاز عن الآخرين بهذه الميزة بما لديه من طاقات تخيلية تختلف عن الإنسان العادي، وهو كذلك، يستطيع أن يجسد لنا بمقدرة واعية جدا التجربة الإنسانية كإنسان مبدع يختلف مره أخرى عن الإنسان العادي، تماما كم حدث فى فيلم (الفيل الأزرق) فهو لم يعيش على الشاشة بصفته الشخصية فقط، وإنما بصفته فنانا وصانعا ومبدعا، ولهذا فإن مشاعره الشخصية كممثل دخلت فى تفاعل مع العمليات السيكولوجية الفيزيائية التى يشعر بها الممثل الفنان.
ولعلنا نجد أن هذه المشاعر هى الموجودة لدى الإنسان العادى وهى جملة من الأحاسيس والرؤى، ولكن الفارق كبير بين الإنسان العادى بمشاعره، والإنسان الممثل الفنان (خالد الصاوي) المبدع القادر على نقل تجارب الآخرين إلينا بصورة فنية مختلفة عما تدور فى الحياة اليومية، والغاية من ذلك الوقوف على المعرفة الإنسانية، واكتساب معرفة وتجربة جديدتين، وكل هذا من أجل التأمل والتغيير أيضا، ولا ننسى جمالية المتعة والتسلية التى يبديها فى أدائه الذى يميل فى مجمله إلى الكوميديا الخفيفة، الأمر الذى أوجب عليه كممثل أن يندمج بمشاعر دوره لكن بالقدر المطلوب، للعثور على شكل التعبير الصحيح الذى يعبر بدقة مطلقة عن الشعور المطلوب، والفكرة المطلوبة، والفعل المطلوب لإيصال الشكل - فيما بعد - إلى أقصى ما يمكن التعبير.
بعد غياب طويل عن ساحة الدراما الرمضانية، وانسحاب اضطرارى تجاوز ثلاثة مواسم، عاد النجم (خالد الصاوي) مجدداً إلى الشاشة الصغيرة العام الماضي، ليلفت انتباه الجمهور المصرى والعربى فى دور جديد كليا هذه المرة، جذب إليه الأنظار منذ المشاهد الأولى لمسلسل (ليالينا 80) للكاتب أحمد عبدالفتاح والمخرج أحمد صالح، مكرسا تفاصيل شخصية درامية معقدة تعشق الحياة وتكابد فى تضميد جراح الغياب، فتتأرجح بين الماضى والحاضر وتضيع بينهما، فى الوقت الذى تواجه من الجانب المقابل بقسوة من حولها، وأنانيتهم المفرطة، وعدم تفهمهم لأزماتها النفسية، التى برع الصاوى فى إقناع المشاهد بضراوتها، مرتكزاً فى ذلك على أداء متقن ومهارة استثنائية فى ضبط اختلاجاته وردود أفعاله فى هذا العمل فى عودة مفعمة بالحنين إلى حقبة الثمانينات من القرن الماضي.
أما أداء خالد الصاوى لشخصية رجل العقل وأستاذ الفلسفة (جلال أرسطو) المتمسك بحبال المنطق رغم اعتلاله وشعوره الدائم بالوحدة، فقد تألق فيه وهذا ما يتجلى واضحاً فى اقترابه الكبير من ابنة أخيه، وتعلقه الدائم بها الذى زاد بعد أزمة فقدانها للبصر، وانتقال زوجة أخيه وابنتها للعيش معه فى منزل العائلة الكبير، الذى رافق عودة شقيقه مجدداً إلى أحد بلدان الخليج للعمل، تماما كما بدا تعلقه بأخيه (علي) فى (القاهرة كابل) وولائه الكبير لوطنه كضابط لأمن الدولة درج على التحقيق مع مختلف التيارات الدينية، وبرع فى أدائه ليكرر تجربة (جلال أرسطو)، وشيئا من هذا القبيل كان يتماس معه فى دور (عابد تيمور) فى مسلسل (اللى مالوش كبير).
أثبت خالد الصاوى خلال الموسمين الرمضانيين وكذلك فى السينما من خلال أفلام (الأصليين، الفيل الأزرق، الفرح، السفاح، خيال مآتة، الجزيرة)، وغيرها من أفلام أن موهوب بالفطرة، و إذا ما صح القول بأن الجسد حامل للمعرفة كما يبين ذلك (ألبرت كاموس) يتأكد لدينا أهمية الممثل الحامل لهذه المعرفة، فإن (الصاوي) يحملها من خلال مكونات عدة، وقفت عليها آنفا، لتكون ثلاث مكونات وهى الذكاء العقلى الذى يتمتع به، والمعرفة الخارجية للشخصية التى يجسدها من خلال التدريب والتعليم، والمعرفة الداخلية التى ترسل للمتلقى فى صورة رسائل غير مباشرة، وهو ما يعكس لنا عملية فهمه للحياة وما تدور حوله الدراما من فكر ورؤى وحوار.
وعليه يمكن اعتبار كل ما يدور أمام الكاميرا فى حالة (خالد الصاوي) هو نتيجة تفاعل مشترك تركز فى جسده كممثل، وهذا التشارك وإن بدا الممثل وحيدا داخل الكادر كما فى المونودراما والحكواتى مثلا مع اختلاف بينهما، يدركه المشاهد من خلال طريقة التعامل معه، وكيفية تعاطى المعرفة معه، وكيفية بث المعرفة من خلال جسد الممثل، والذى يبدو من خلال التمثيل، ليكون الصورة المرئية للآخر، ومن هنا ندرك أن يكون الجسد فرجة للآخر، إذن الجسد (عند الصاوي) يقوم بحركات ما وهى فيزيائية وروحية، هى حركات اندماجية من هاتين الخاصيتين للجسد البشرى الجانب الفيزيائى والجانب النفسى الروحي، وهذا الجسد الفرجة كما أشار إليه (بارت) حيث يكون فرجة للجمهور بجوانب من الحياة الاجتماعية على الشاشة.
إن الجسد المسرحى لدى (خالد الصاوى هو ما يراه (باتريس بافيس) حيث يتمثل بأسلوبين للعب: التلقائية والمراقبة المطلقة، أى بين جسد طبيعى لدى الممثل وجسد دميه يحركه المخرج، وهذا يؤكد على طاقتين، طاقة ذاتية موجودة من خلال تشكل الجسد بكامله، وطاقة أخرى ناتجة عن التدريب، ويتمثل ذلك بالحركات المتوائمة مع الفكرة/ الموضوع الدرامي، فيرى ديكارت أن الروح لا توجد فى الجسد وجود الربان فى السفينة، بل ككائن يسكن فى جميع أنحاء (الجسد) وعليه فإن الحركات الجسدية المتنوعة والتى تحويها كل أجزاء الجسم من الأعلى للأسفل - لدى خالد الصاوى - هى عبارة عن إيقاعات لغوية حركية تنوب عن الكثير من الكلام، كما تجسد فى حالة (جلال أرسطو) فى مسلسل (ليالينا 80) وكذلك الضابط (عادل) فى (القاهرة كابول).
فالإشارة من عين (خالد الصاوي) قد تعطى دلالات مختلفة، إن هذه العلامات تندرج ضمن السياق، سواء أكان يعبر عن حالة مودة أو حالة من التشنج والرفض لما يحدث من قبل الطرف الآخر، وكذلك إيماءة الرأس تعطى تعبيرات لغوية حركية تعبر عن الرفض والقبول والتردد، وهذا ينطبق على الفم بحركاته المختفلة، وينطبق أيضا على الحاجب، ولا ننسى الأطراف والتى قد تكون معبرة بصورة أكثر وضوحا، وربما يلعب بذلك حجمها الذى يختلف عن الأعضاء الأخرى مثل العين والفم والرأس أيضا، فإذا ما استخدمت الأعضاء الصغيرة، لتخفى الأمور عن الآخرين، فإن الأعضاء الكبيرة تفضحها وهى تؤدى الدور نفسه الذى تقوم به الأعضاء الصغيرة، لهذا فإن لغة الجسد (عند خالد الصاوي) هى لغة ذات دلالات متنوعة، تتموضع حسب السياق كما يقال لكل مقام مقال، والمقال هنا بلغة الإشارة وليس باللغة المنطوقة.
خلاصة القول: إن مكونات الجسد عند (خالد الصاوي) متعددة منها الصوت، والذى بدأ الاهتمام به كجزئية جسدية، أى باعتباره لغة جسدية وليس كلاما، وليس من الضرورى هنا أن يكون هذا الصوت جميلا أو متناغما أو مركزا ونغما معبرا بعمق عن الشخصية بما تحمله من خصائص وفردية وحساسية، بل أن الصوت الذى كان يخرج بصعوبة من فم (الصاوي) - حتى عاب عليه البعض ذلك - إنما يعبر عن باطنية الممثل، إن هذا الصوت يعبر عن الموقف كلغة جسدية يعبر عنها بالصراخ مثلا، حيث يكون هذا الصوت مفجوعا أو حزينا أو فرحا بطريقة ما من خلال الموقف الذى يقفه الممثل، وهو بالتالى التعبير الجسدى عن حالة الممثل، لما يمر به من مواقف كوسيلة تعبيرية، كما بدا ذلك فى أدوار (الصاوي) الأخيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة