ناهد صلاح

سمير غانم.. مشهد واحد يكفى

الجمعة، 21 مايو 2021 12:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 "الأستاذ أبو زيد من أحسن اللي مسكوا إدارة الأفلام العربية"، والأستاذ أبو زيد هو سمير غانم في مسلسل "عوالم خفية" (2018) إخراج رامي إمام، يذهب إليه الصحفي هلال كامل (عادل إمام) الذي يعثر على مذكرات ممثلة اسمها مريم رياض، قُتلت منذ سنوات، وبقراءته لمذكراتها يبدأ رحلة البحث عن قاتليها، وفي هذه الرحلة يذهب لمقابلة مدير إدارة الأفلام العربية، فيجده مصاباً بـ "زهايمر".

 مشهد واحد يظهر فيه سمير غانم كضيف شرف في المسلسل، إلا أنه كافياً بعفويته وصدقه وحساسيته الفنية والإنسانية، لاقتناص الضحكة المجلجلة من أعماق المشاهدين، من دون ابتذال أو تسطيح أو سخرية باهتة.. يجلس على مكتب؛ خلف صحيفة الأهرام، نسخة قديمة مهترأة تحمل عناوين الذكرى الأولى لرحيل جمال عبد الناصر، تاريخ المرحلة التي توقفت عندها ذاكرته، بينما يدخل عليه عادل إمام حذراً، محاولا اكتشاف الرجل خلف الجريدة في غرفة موزعة الإضاءة، بشكل يليق بتوقف الزمن عند مرحلة هؤلاء النجوم الكبار الذين تجمعت صورهم على الجدران.

 ينتهي الأستاذ أبو زيد من قراءة الصحيفة وترتخي بها يده على المكتب، فيفاجئه وجود الصحفي أمامه، فينتابه الهلع ثم يبتسم فجأة ويقوم لتحية ضيفه الذي يخبره أنه لا داع لقيامه، فيجيبه: "ما كنت تقول قبل ما أقوم"، على طريقة سمير غانم وأدائه الخاص الذي يطغى على المشهد في مواجهة نجم أخر كبير، لا يخشى سمير الكبار؛ بل كان يعي جيداً أنه أيضاً كبير، وأن تعاونه معهم يحقق الاكتمال، كما في هذا المشهد الكوميدي الساخر، المغلف بحس إنساني، مع أنه يغرق كلّياً في الكوميديا المصفاة من كل "شائبة" أخرى، يقدم الضحك، ولا شيء غير الضحك، بالطريقة التي تعكس براعة الأداء واتقانه في تفعيل لهجته الكوميدية، براعته في الامتثال لحضرة الكوميديا، حيويته التمثيلية، تحوله الأدائي البارع إلى مُضحك.

 يتوهج في حواره حين يتحدث عن عمله الذي تركه منذ سنوات كأنه لازال في خضم معاركه، يحكي عن أول فيلم مارس فيه دوره كرقيب، كان شيء من الخوف سنة 1969، وحين تأت سيرة بطل الفيلم الفنان محمود مرسي، يقول بمودة واعتزاز:" الأستاذ مرسي كان فحل في الأداء، فحل في التمثيل، قعد بجواري ساعة يشاهد الفيلم وأنا براقب، قلت له أستاذ مرسي تعالى ع الكرسي، راح قاعد ع الكرسي، يعني هو كرسي وأنا كرسي.. كان مبسوط أوي وسلم على إيدي، إيده قد كدة".. ثم يتحدث عن المخرج الشاب حسين كمال، ويعرب عن أسفه تجاه سناء جميل الذي يضع صورتها على الأرض، تعبيراً عن حزنه:" أنا لي عتاب عليها، تخيل ممثلة قديرة زي دي، تقول للأستاذ صلاح منصور في فيلم الزوجة الثانية، الليل يا عمدة".

 مشهد خلفه ألف حكاية تُروى عن فنان توّاق لعمله، حتى لو كان دوراً عابراً يقدمه تحية لزميله عادل إمام، فهذا الدور العابر كان لا يمكن أن يحققه بهذا الألق سوى سمير غانم، طريقته، ربع الابتسامة الذي يرتسم على وجهه، اللغة التي احتوت غالباً على جزء إرتجالي، حتى إرتجالاته خفيفة الظل، فيها هذا التناسب بين الفكرة وظلالها، بعيداً عن التأليف، مستلهماً من ذوق إبداعي طبيعي، ومن حركية روح حساسة حتى في أفلام المقاولات التي قام ببطولتها في الثمانينيات، ولعل إرتجالاته في مسرحية "المتزوجون" من أكثر ما تعلقت به الجماهير، فلا أحد يمكن أن ينسى مشاهد الفول والمواطن المصري، أو الملوخية والشوربة وكتاب أبلة نظيرة، أو صرصار حبنا في مسرحية كشفت عن الفارق الشاسع في مجتمعنا بين الفقراء والأغنياء، بين الذين يعيشون في القاع وساكني القصور.

انطلاقاً من الارتجال وتأثيره في حضوره وتفعيل أدائه، فإن سمير غانم الذي اتخذ التمثيل كمهنة واحتراف إبداعي يليق بالقيمة الفنية للممثل، أتقن لعبة المزج بين أداء جسدي وحركي، ونبرة صوتية، إنه أحد أضلاع "ثلاثي أضواء المسرح" الشهيرة، الفرقة التي حفرت وصنعت تياراً متميزاً في الكوميديا المصرية، من خلال اسكتشاتها المسرحية ثم حضورها السينمائي والمسرحي البارز عبر أفلام ومسرحيات عدة غناءً وتمثيلاً، لكن إنحلت الفرقة  بعد رحيل الضيف أحمد، بينما استمر سمير وجورج في التعاون على المسرح، إذ قدما سوياً أعمالاً ذاع صيتها جماهيرياً مثل "المتزوجون"، "أهلاً يا كتور".

 جاءت الثمانينيات بوجه أكثر سطوعاً لسمير غانم في السينما، كانت نقلة نوعية له في أفلام متفاوتة المستوى، وبصرف النظر عن تقييمها النقدي، فإنها كرسته كفنان محترف، وحضوره الفني القوي على مدى أكثر من نصف قرن تقريباً، وأكثر من 314 عملاً فنياً، لكن الأرقام لا تعني شيئاً في معنى الأداء التمثيلي، ومدى استيفائه شرطه المهني الاحترافي المؤثّر، فمهنة التمثيل تتطلب إتقاناً متيناً تتطلّب جهداً حثيثاً ، كان سمير غانم لاعباً بارعاً في التحكم بالشخصية ومفرداتها وتفاصيلها، هذا نابع من قدرة عميقة على الاستيعاب، وكذلك في تفكيك معالم الشخصية وامتداداتها وفضاءاتها.   

 لهذا، أميل إلى قناعة مفادها أن الإبهار الكوميدي المصنوع على يديّ سمير غانم، يبقى أجمل من أن يُحصى بأرقام، هذا غير تزايد مساحة نجوميته على المسرح، وغير فوازير رمضان التي أعطته زاوية جماهيرية أكثر إتساعاً، إنها أعمال لا تزال حاضرة في المشهد الإبداعي، في رحلته الفنية الطويلة، جعلته واحداً من كبار صانعي اللغة الكوميدية الجميلة والممتعة في المسرح والسينما والتليفزيون على حد سواء.

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة