ناهد صلاح

عمر الشريف .. بطل أيامنا الحلوة

السبت، 10 أبريل 2021 08:50 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بينما تمر اليوم ذكرى ميلاد عمر الشريف، أتذكر السؤال الذي طاردني حين تم الإعلان عن كتابي "عمر الشريف.. بطل أيامنا الحلوة"، الصادر عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع ومكتبة أطياف في العام 2015، إذ كان السؤال: أكلما مات نجم يصدر عنه كتاب؟، يبدو السؤال في ظاهره وباطنه مستفزاً لأي كاتب كأنه يحاكمه لأنه مارس فعل الكتابة، وقبل أن أنطق وأقول حينها: ولما لا نكتب عن نجم من لحم ودم يصعب على الموت أن يطويه كورقة مهملة؟ وجدتني أقول: وليكن! كما لو كنت أستعير بعض غموضه الذي كان يداعب خيالنا 

من ناحية أخرى، فإن الكتابة عن عمر الشريف كواحد من رموزنا الفنية أمر لا حرج فيه، خصوصاً وأنني آمنت دائماً بضرورة وجود مؤلفات تحكي سيَر اللامعين من أبناء الوطن لتكون نقطة ضوء تنير لنا الماضي وأحداثه وهزائمه وانتصاراته، فتصنع خطاً ممتداً للمستقبل؛ نستطيع من خلاله أن نواصل الطريق بسهله وصعبه، ونحاول أن ننجو بروحنا من متاريس الجهل والخذلان ونحمي أنفسنا من الانهيار في الفراغ الفسيح، ومع عمر الشريف اكتشفت أن حياته أكثر ثراءً من أفلامه، فلا تستطيع أمامها سوى أن تنجرف في تفاصيلها المغوية لعلك تجمع أجزاءً من روح شفافة تشعل الظلام لكن يصعب عليك أن تمسك بتلابيبها، فتكتفي أن تتابع طوافها في شوارع الوطن والغربة.

كل الذين بحثوا عن الحب وحاولوا أن يعثروا على ملمح منه في علاقة نوال وخالد في فيلم "نهر الحب" (1960)، تعاطفوا مع بطلي الرواية الشهيرة للروسي الأشهر ليو تولستوي كما قدمها المخرج عز الدين ذو الفقار، متجاوزين فكرة أن خالد يحب نوال المتزوجة من رجل آخر، لأنهما حافظا على قدسية وطهارة هذا الحب وترف الشوق وأناقة الصورة، فبينهما كان هذا الوتر الذي يصدر أنغاماً هي مزيج من أنين مكتوم ورقة قاسية تشحذ مديح الحب حتى لو كانت نهايته الهزيمة المفجعة.

أفكر، فيما أتابع المد والجزر في رقصة نوال وخالد الشهيرة في هذا الفيلم، واتساءل: كيف أصبح هذا الثنائي رمزاً لصورة الحب؟ وهل الطيور على أشكالها تقع فعلاً؟ فلماذا فرّ أحدهما؟ ولماذا ظلت قصة الحب المنتهية واحدة من الأناشيد الحارة والطيبة ترددها الأمهات لبناتهن جيلاً بعد جيل كما فعلت معي أمي؟ هل هو عطش الحناجر اليابسة للحب والاحتياج المطلق له في الفراغ الفسيح؟.

كنت سألته: هل أحببت فاتن حمامة؟

- نعم.. بطريقة شرقية. زواجي لم يكن زواج حب، بمعنى أنه لم يكن حباً عاطفياً، لقد كان زواجاً أساسه الانسجام والمحبة والصداقة، وأي زواج يقوم علي مثل هذه المشاعر يمكن أن ينجح، ولقد نجح زواجي بالفعل لأننا بقينا زوجين لمدة عشر سنوات وخلال هذه السنوات العشر لم أخدعها أبداً.

- هل كنت سعيداً؟

- لقد كنت قانعاً.

بالضربة القاضية اختصر عمر الشريف قصة حبه الكبيرة التي لم يزل يحكي عنها الجميع ويتحاكى حتى بعد الموت، وصفها بأنها مجرد علاقة قامت على الانسجام، علاقة ود وفقط ولا حديث عن حب زلزل كيان طرفين وجعلهما يوماً ما يقفان على ضفة التحدي، وحولهما إلى أيقونة للحب في الجغرافيا العربية.

 رتبت لي الصدفة أكثر من مرة موعداً مع عمر الشريف، استقبلني بتلقائية محت كل القصص والروايات عن عصبيته التي قالوا أنها لازمته ليل نهار، عرفت أنه يفضل الصوت الهاديء الذي يستطيع أن يسمعه جيداً، فالتزمت بإيقاعه وتحدثت بهدوء وبطء وأصغيت له جيداً وهو يعيد شريط ذكرياته في مقابلتنا الأولى عقب تصويره فيلم "حسن ومرقص" (2008)، حيث فزت بحوار صحفي طويل تم نشره على حلقات في صحيفة الجريدة الكويتية.

  الصدفة أيضاً منحتني لقائي الثاني به في الدورة السادسة والعشرين لمهرجان الاسكندرية السينمائي (2010)، حيث كان ضيف شرف المهرجان والتقيته يومياً في بهو الفندق الذي أقيمت فيه فعاليات المهرجان وفزت في هذه المرة أيضاً بالعديد من القصص في حياته، أما لقائي الثالث والأخير معه، كان حين حضر لإجراء سهرة تليفزيونية كنت أشارك في إعدادها للفنان سمير صبري بمناسبة رأس السنة (2015)، كانت إطلالته هائلة والجميع يسعى إليه ليلتقط معه صورة، كانت لديه تلك الابتسامة الحائرة والحذرة التي تخفي وراءها اصابته بمرض الألزهايمر الذي استحوذ على ذاكرته، لكنه مع ذلك لم يفقد ثباته.

 لقاء في القاهرة ولقاءان في الاسكندرية لكي يكتمل إيقاعه الـ"كوزموبوليتان"، ابن الاسكندرية الذي استكمل نشأته في القاهرة، المدن التي انتصرت للجوهر واحتضنت التعددية، المسافر، المغامر، المتسامح، الغاضب وسمات أخرى جعلت مشواره خيالياً كطائر جامح يبحث عن فضاء أوسع حتى صار هادياً للآخرين الحالمين بجموح مثل جموحه، ومطمعاً للمغامرين وصائدي الأخبار، وذوي المخيلات الواسعة في إثارة الفضائح.

حياته مغوية للحكي، مشحونة بألوان عدة من حيرته بين حريته في الخارج وحنينه إلى وطن تركه برغبته وكامل إرادته، ورحيله.. ابن البحر كأنه وُلد على مركب، صوته لم يأت من جذور الأرض؛ بل من تأرجح الريح وجرح في الهوية، من الاسكندرية إلى هوليوود مروراً بالقاهرة، جسر مفتوح عبره عمر الشريف بجرأة المغامر الذي عرف قوانين اللعبة جيداً وتناقضاتها، ما جعل مشواره أقرب إلى القدر والخيال والغموض من الواقع وضجره وبؤسه، رحلة طويلة وحافلة رسمها "ابن العرب" وتوغل فيها بخطوات متوهجة من الخصوصية والحميمية إلى "بلاد الخواجات" حلمه وعشقه الذي سحبه خلفه حتى آخر الدنيا.

منذ أن كان اسمه "ميشيل"، حتى صار اسمه "عمر" النجم العالمي، المغامر الذي لم تخطفه رحلة التوهة في الغربة بشكل كامل، فحتى أخر لحظة لم يتخل عن مصريته أو جواز سفره المصري، الغاضب، البطريرك، الرمز بالنسبة للكثير من الممثلين العرب الذين تطلعوا إلى طموح العالمية، المتسامح الذي يلتزم بمعايير إنسانيته، ويمتلك شجاعة الاعتراف والمواجهة والبساطة التي تخرج عن إطار كونه نجماً كبيراً، فلم يضف لنفسه هالة من القدسية عادة يحرص النجوم عليها أمام جماهيرهم.

 

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة