نواصل إلقاء الضوء على كتب المثقف الكبير أحمد أمين (1886-1954) وهو واحد من أبرز المثقفين المصريين فى القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه "ضحى الإسلام".
يقول أحمد أمين فى مقدمة الكتاب، يصور بعض المؤرخين الحالة (وقد سقطت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية) تصويرًا يخيل إليك معه، أن هناك حدودًا فاصلة بين الدولتين، وأن صفحة للتاريخ قد خُتمت بانتهاء الدولة الأموية، وأن صفحة أخرى بدأت بقيام الدولة العباسية، وأنه ليس هناك كبير علاقة بين الأمة الإسلامية فى عهدها الأول، والأمة فى عهدها الثانى، وهذا التصوير أبعد ما يكون عن الصحة، وعلى الأخص من الناحيتين؛ الاجتماعية، والعقلية.
حدثت حوادث فى صدر الإسلام، وفى عهد الدولة الأموية، أخذت تعمل عملها منذ وجودها، واستمر تأثيرها مع سقوط الأمويين، وقيام العباسيين، خذ لذلك مثلًا: تعاليم الإسلام، فقد ظلت تعمل وتنتشر، مؤثرة فى البلاد المفتوحة ومتأثرة بها، وكذلك الشأن فى انتشار لغة العرب، فلم يكن قيام الدولة العباسية صفحة جديدة لهذين العاملين، وإنما كانت مهدًا لامتدادهما، ومن أوضح المثل على ذلك: عملية الامتزاج بين الأمم الفاتحة والمفتوحة، فقد بدأت من عهد عمر بن الخطاب، ووقفت وقفة صغيرة لِما أصاب الأمم المغلوبة من الدهشِ.
ثم بدأت تخضع للنظم الاجتماعية، من تزاوج، ودخول فى الإسلام، وتعلم للعربية، ثم ظهورِ جيل جديد يحمل الدم العربى والأجنبى معًا، بل يحمل مع ذلك خصائص الأمم المختلفة التى يتكون منها دمه، سواء كانت خصائص جسمية، أو عقلية، أو خلقية، أو روحية. وأخذ هذا الجيل فى الظهور فى عهد الدولة الأموية، وظل ينمو ويتعاقب فى الدولة العباسية، وكان من نتائج هذا الامتزاج: أن كل جنس بدأ يتعلم من الأجناس الأخرى ما يشعر بأنها آخذة منه بحظ أوفر، فالعربى يأخذ من الفرس والرومان حضارتهم، والفرس تأخذ من العرب الدين، واللغة، وهكذا.. وهذه العمليات ظلت سائرة فى العهد العباسي، كما كانت سائرة فى العهد الأموي.
بل أستطيع أن أقول إن الدولة الأموية لو قدر لها أن تستمر فى الحكم الزمن الذى حكمته الدولة العباسية؛ لظهر على يديها من الحركات العلمية والإصلاحات الاجتماعية؛ قريب مما ظهر على يد العباسيين. ودليلنا على ما نقول: أن الدولة الأموية نفسها، وهى هي. كانت الحركة العلمية، والمذاهب الدينية، والنظم الاجتماعية؛ فى آخرها أرقى منها فى أولها، فانتظمت تعاليم الخوارج، ونشأ الاعتزال، واعتنقه بعض الخلفاء الأمويين، ونظمت حلقات الدروس فى المساجد، وأخذ العلماء يبحثون مسائل فى القدر، وغير القدر، وتناقشوا مع اليهود والنصارى، وبدأت نواة التأليف، والترجمة، وظهرت الكتابة الفنية، إلى كثير من أمثال ذلك. ولو كان اتساع الحركة العلمية من عمل العباسيين وحدهم؛ لكان آخر الدولة الأموية يشبه أولها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة