يبدو أن حالة الصراع الدولي التي ارتبطت بقضية المناخ، باتت ترتبط بالعديد من الأوجه، أولها الصراع القديم بين دول العالم المتقدم، والتي ترفض التخلي عن الاستخدام المتزايد للوقود الأحفورى، حفاظا على وتيرتها التنموية، من جانب، والدول النامية التي ترى أن الفريق الأول مطالبا بالمزيد من التنازلات في ظل مسؤوليته عما آلت إليه الأمور، ليس فقط المتعلقة بالوضع البيئي، وإنما أيضا في إفقارهم، عبر تجريدهم من مواردهم الطبيعية، لصالح طفراتهم الصناعية، من منطلق اقتصادى اتسم بالشراسة استمر لعقود طويلة من الزمن، من جانب اخر ، بينما يقوم الوجه الأخر من الصراع الدولي الراهن على المنافسة الشرسة بين القوى الكبرى من أجل الاستئثار بموقع القيادة الدولية والإقليمية، وهو ما تجلى في أبهى صوره في قمة "جلاسجو" الأخيرة، في ضوء تزامنه مع مرحلة مخاض يشهدها النظام الدولي، تراجعت فيها أمريكا، في الوقت الذى تسعى فيه قوى أخرى لمزاحمتها على غرار الصين وروسيا، ناهيك عن القوى الأوروبية الطامحة لاستعادة أمجاد الهيمنة والنفوذ، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، وهو ما تناولته في مقالي السابق.
ولعل الصراعات الراهنة، على خلفية التهديد المناخي الخطير، تبقى في حاجة ملحة إلى حالة من الاحتواء في المرحلة المقبلة، عبر الوصول إلى صيغة مناسبة، تقوم في الأساس على احترام رغبة الدول النامية في تحقيق التنمية، خاصة مع أزمات اقتصادية كبيرة تلاحقها منذ سنوات، وزاد الوباء من تفاقمها، تزامنا مع التحرك لتحويل الصراعات القائمة إلى تعاون، يقوم على مبدأ الشراكة الدولية، بعيدا عن سياسات الدعم القادم من الخارج، والذى طالما اعتمدت عليه دول العالم المتقدم والنامي على السواء، سواء كان دعما سياسيا أو تجاريا أو اقتصاديا، وهو ما يفسر حالة الصدمة التي انتابت القوى الرئيسية في أوروبا إثر سياسات "التخلي" الأمريكى عنهم، والتي بدأت في حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، من خلال تحركات صريحة مناوئة للاتحاد الأوروبي تارة، وفرض تعريفات جمركية على الواردات القادمة من القارة العجوز تارة أخرى، أو التلويح بالانسحاب من الناتو تارة ثالثة، وهي السياسات التى أدت إلى حالة واضحة من الارتباك في دائر صناعة القرار الأوروبية في السنوات الراهنة، ودفعت نحو حالة الصراع الراهن، والذى يمثل المناخ مجرد أحد أبعاده.
وهنا تتجلى أهمية قمة المناخ المقبلة، والمقرر انعقادها في مصر العام المقبل، خاصة وأن الاختيار يمثل "شهادة" دولية بعودة القاهرة إلى مكانتها الريادية بعد سنوات الفوضى والإرهاب، في زمن يبدو قياسيا، بالإضافة إلى القدرات الكبيرة التى تمتلكها، ليس فقط بالمعايير القديمة التي كان يقوم فيها اختيار الدول لعقد الأحداث الكبرى اعتمادا على ما تملكه من إمكانات لاستضافة الوفود وعقد الاجتماعات، وإنما أيضا بناء على تجربتها التنموية ورؤيتها، والأهم من ذلك قدرتها على تعميم التجربة والرؤية في محيطها الدولى والاقليمي.
ويعد النجاح المصري المنقطع النظير في تعميم تجربتها، عبر تطبيق مبدأ "الشراكة" الدولية بمثابة الرهان الأهم على اختيارها لتنظيم قمة المناخ المقبلة، في ضوء تعاون مثمر، في الكثير من المجالات، أهمها الحرب على الإرهاب، واستعادة الاستقرار في العديد من الدول التى عانت من الفوضى في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى دعم الأجندة التنموية في العديد من الدول الافريقية، بينما يبقى التعاون مع قبرص واليونان، بمثابة نقطة انطلاق جديدة نحو القارة العجوز، في إطار الدائرة المتوسطية.
فلو نظرنا إلى أجندة مصر البيئية، نجد أن ثمة اهتمام بالغ بهذه القضية، على اعتبار أنها ليست ببعيدة عن مخاطر التغيرات المناخية، وهو ما يتجلى في التوجه نحو الاعتماد على الغاز الطبيعي، باعتباره بديل أقل تلويثا، بالإضافة إلى إنشاء محطات تحليه للمياه، ناهيك عن مشروعات تبطين الترع، وكذلك استحداث طرق حديثة للزراعة والرى، وغيرها من الرؤى الهادفة إلى التوجه نحو اقتصاد صديق للبيئة.
وبالتالي يبقى اختيار مصر لتنظيم مؤتمر المناخ المقبل بمثابة رسالة مزدوجة، تقوم في جزء منها على تعميم الرؤية المصرية في محيطها الجغرافي، وهو ما يمكن أن يتحقق عبر التعاون مع المنظمات الاقليمية، على غرار جامعة الدول العربية والاتحاد الافريقي، بينما تعتمد مسارا آخر يقوم على تحويل حالة الصراع الدولي الراهن حول القيادة إلى شراكة، بعيدا عما يمكننا تسميته "صراع الاتفاقيات" المناخية الذى بلغ ذروته مع الانسحاب الأمريكي من اتفاقية باريس المناخية، وهو ما وضع اللبنة الأولى في التوتر الذى مازالت تشهده العلاقات الأمريكية الفرنسية حتى الآن.
ولعل الحديث عن دور المنظمات الإقليمية يبدو مهما في هذا الإطار، حيث نجد أن ثمة اهتمام كبير بالتغير المناخي وتبعاته، داخل أروقتها، واخرها اجتماع المجلس الوزارى العربي للمياه بجامعة الدول العربية، والذى ارتكز على ضرورة تبادل الخبرات حول كيفية التعامل مع أزمة ندرة المياه، باعتباره أحد التداعيات الخطيرة للتغيرات المناخية، عبر تبادل الخبرات والدعوة إلى اعتماد مشروعات لإنشاء محطات تحلية المياه، والاعتماد على طرق الرى الحديثة الأقل استهلاكا للمياه، وهى الاجتماعات التى من شأنها تكوين رؤية موحدة حول الأزمة الراهنة، يمكنها ان تكون أحد اهم منطلقات قمة المناخ المقبلة.
في الواقع أن العالم يتطلع بشغف كبير إلى "إعلان" يصدر من أرض الكنانة، يمكنه احتواء أزمة متعددة الأوجه، تمثل تهديدا صريحا للبشرية، بينما لا يخلو من أبعاده السياسية الدولية التنافسية، ربما يؤدى طغيانها على المشهد التفاوضى خطرا داهما في المرحلة المقبلة، وهو ما يمثل انعكاسا لحالة من الثقة الكبيرة في "الجمهورية الجديدة" وامتدادا لانتصار الرؤى المصرية في العديد من الملفات الأخرى طيلة السنوات الماضية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة