حالة من الجدل تثور حاليا حول ما سوف تؤول إليه الأمور في بولندا، ومن ورائها الاتحاد الأوروبى، إثر أزمة المهاجرين القادمين من بيلاروسيا، في خطوة تجسد جزءً كبيرا من المخاطر التي تواجه القارة العجوز في المرحلة الراهنة، في ظل العديد من المعطيات، أولها حالة التنافر الكبير في المصالح، تزامنا مع الخروج من "جنة" الحماية الأمريكية، بالإضافة إلى الطلاق البريطاني من أوروبا الموحدة، والمساعى الأمريكية الصريحة، نحو إعادة لندن في موضع القيادة القارية على حساب أنصار الوحدة، على غرار فرنسا وألمانيا، ناهيك عن الصعود الكبير الذى تشهده التيارات اليمينية، والأخرى المناهضة لليبرالية الغربية، والمعروفة بتوجهاتها الداعمة لفكرة الخصوصية الوطنية للدول، ومناوئتها لفكرة الحدود المفتوحة.
وهنا تتجاوز الأزمة بين بيلاروسيا وبولندا، الإطار الثنائى، في العلاقات الدولية، وإنما تحمل في طياتها أطرافا أخرى، ربما أبرزهم الاتحاد الأوروبى في صورته الكلية، بالإضافة إلى بريطانيا والتي تسعى لوضع نفسها في موقع القيادة القارية من خارج التكتل، ناهيك عن روسيا والتي تبقى الحليف الرئيسى الذى تعتمد عليه بيلاروسيا، ليصبح الصراع داخل القارة العجوز يحمل العديد من الأبعاد، يحمل أولها الشكل التقليدي للتنافس بين أوروبا الغربية وروسيا، بينما يظهر، من الجانب الأخر، تنافسا داخليا على قيادة القارة، بين بريطانيا، والدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبى، وعلى رأسهم فرنسا التي تقدم نفسها بديلا لألمانيا في قيادة التكتل القارى، خلفا لألمانيا بعد تقاعد المستشارة أنجيلا ميركل، في حين يبقى جانبا ثالثا يتجسد في الرؤى الحزبية داخل كل دولة، في ضوء دعاية أحزاب اليمين المناهضة لفكرة الهجرة من الأساس، وبالتالي فيمكنهم استغلال الأزمة للحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية.
ولكن بعيدا عن الصراع الحزبي داخل دول أوروبا، يبقى شكل الصراع الدولى متعدد الأبعاد، أو ما يمكننا تسميته بـ"الاستقطاب" الدولى، هو بمثابة انعكاسا صريحا لحقيقة مفادها أن ثمة ترهلا سياسيا واضحا في القارة العجوز، في ظل غياب قائد، سواء من خارجها، على غرار الولايات المتحدة، أو من الداخل، وهو ما يتجلى في صورة الصراع الراهن داخل أروقتها، لتنحصر المنافسة بين أطراف ثلاثة، وهى بريطانيا، وروسيا، ويسعيان لتقديم نفسهما بديل للحليف الأمريكي، بينما يبقى صعود قوى من داخل الاتحاد الأوروبى للقيادة القارية، على غرار فرنسا، بعدا ثالثا للمشهد الصراعى داخل القارة في المرحلة الراهنة.
ولعل باريس حاولت السيطرة على زمام المبادرة منذ سنوات، عندما دعا الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تأسيس "جيش أوروبى موحد"، على اعتبار أن مثل هذه الخطوة تمثل الطريق نحو اعتماد القارة على نفسها، في ضوء التخلي الأمريكي، معتبرا أن "الناتو" مات إكلينيكيا، وهى التصريحات التي أثارت غضب واشنطن، بينما لاقت انتقادات كبيرة داخل أوروبا الموحدة، وفى القلب منها ألمانيا، إلا أن المبادرة الفرنسية كانت تمثل قراءة مبكرة للغاية للمشهد الأوروبى، قبل سنوات، فى ضوء "بريكست"، وحالة الانفلات السياسي التي شهدتها القارة، سواء في إطارها الجمعى، عبر الدعم الأمريكي الصريح لتفكيك الاتحاد الأوروبى، خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، أو على مستوى الدول، وهو ما تجلى في التمرد الشعبى على التيارات الليبرالية التقليدية، والتوجه يمينا أو يسارا، وهو ما تجلى في العديد من المشاهد الانتخابية، وأخرها في ألمانيا، بعد انتصار الاشتراكيين على حساب حزب ميركل، وهو ما يمثل ترجمة لحقيقة أخرى، مفادها أن استئثار الليبراليين بالسلطة في أوروبا الغربية كان مرهونا باستمرار الدعم الأمريكي لهم، سواء سياسيا أو عسكريا او اقتصاديا.
في حين تمثل علاقة بريطانيا وروسيا بالأزمة الأوروبية، بمثابة "تحالف في صورة صراع"، أو على الأقل "تحالف مرحلى"، حتى وإن بدت التصريحات عدائية، إذا ما وضعنا في الاعتبار الكثير من المشتركات، أهمها مناهضتهما للاتحاد الأوروبى، بالإضافة إلى رغبتهما في تحييد "أنصار" أوروبا الموحدة عن القيادة القارية، ناهيك عن البعد التاريخى، والمتمثل في رهان لندن الدائم على قوة موسكو لقيادة أوروبا، وهو ما بدا بوضوح في مساعى رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر، نحو إنقاذ الاتحاد السوفيتى من الانهيار، في أواخر الثمانينات من القرن الماضى، رغم كونها أكثر المناهضين له لسنوات طويلة، مما يعكس إدراكها أن انهياره التام يعنى بداية النهاية للدور البريطاني في القارة العجوز، وهو ما قد كان فعلا مع صعود برلين، لتتولى زمام القارة لسنوات على حساب لندن، حيث يبقى الوجود القوى لروسيا بمثابة "فزاعة" بريطانية لمحيطها الأوروبى، يمكنها من خلاله تحقيق أكبر قدر من النقاط السياسية لصالحها على حساب جيرانها الأوروبيين.
روسيا على الجانب الأخر، ترى أن صعود بريطانيا، وهى القوى "المتمردة" على محيطها القارى، يمثل نهاية الاتحاد الأوروبى، الذى طالما استخدمته واشنطن كـ"ذراع" ثان، إلى جانب "الناتو" لتطويقها في مناطق تمثل عمقا استراتيجيا لها، وبالتالي يبقى وجود لندن القوى، طبقا للأبعاد المصلحية، مهما لموسكو، لتفكيك أحد أهم رموز "المعسكر الغربى" في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وهنا يمكننا القول بأن أزمة المهاجرين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، بمثابة أحد أهم الاختبارات لمدى صلابة أوروبا الموحدة، كما انها تمثل معركة أولية، حول ما إذا كان قادرا على الاعتماد على نفسه في مواجهة الأزمات التي سوف تلاحقه، أم أنه سيبقى في حاجة إلى قوى من خارجه لتحل محل واشنطن في المستقبل القريب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة