الحديث عن الادخار مازال ممتداً، خاصة أن القضية كبيرة وتحتاج إلى توعية، وتغيير مفاهيم وثقافة المجتمع نحوها، وقد سارع العديد من الأصدقاء إلى سؤالي بعد مقال الأمس: "كيف ندخر واللي جاي على أد اللي رايح؟"، ظنا منهم أنى أملك الدليل الكامل، والمفتاح الرئيسي لأساسيات الادخار في مصر، فأنا فقط أحاول الاجتهاد في الإجابة، خاصة أن ما طرحوه ما هو إلا تكرار لنفس المفهوم السلبي "اصرف ما في الجيب"، الذي يحفز على ثقافة الفقر، ويدفع الناس دفعاً نحو المسألة والاستدانة، لذلك سوف أحاول تقديم إجابات موضوعية، قد تكون عونا لمن يحاول الادخار ولا يعرف كيف يبدأ.
كيف ندخر؟ هو السؤال الأهم، وإجابته تتلخص في أن يتذكر كل منا أول راتب أو مكافأة حصل عليها في العمل، وكيف كان يحلم بأن يحصل على رقم، هو الآن ليس أكثر من 10% في إجمالي راتبه الحالي، ومع ذلك كان يوفق أوضاعه ولا يستدين من أحد، ويمكنه أن يستمر لشهر كامل بهذه الجنيهات البسيطة.. وهنا يتداخل البعض ويتعلل بأن احتياجات الحياة وأعباء الماضي ليست كالحاضر، وهذا بالطبع صحيح، لكن مازالت هناك فرصة، ومازال بإمكانك أن تخطط للادخار.
لا أتصور أن "الجمعيات" التي يتم التشارك فيها بين الزملاء والأصدقاء شكل مناسب أو مثالي من أشكال الادخار، فأغلب من يخوضون التجربة، يقتطعون من مرتباتهم، ويوفرون من أقواتهم، ليكون الهدف في النهاية شراء سلعة معمرة أو دفع أقساط المدرسة والجامعة، أو زواج البنت أو الابن، وهذه من وجهة نظري لا تعتبر ادخاراً، وليست أكثر من أبواب لسداد الديون أو أعباء الحياة، إنما الادخار لابد أن يدر ربحاً، ويحقق لصاحبه عائد، دون أن يتحول لمجرد وسيلة لسداد الديون أو شراء مستلزمات، ولهذا تتحول "الجمعيات" إلى أدوات استهلاكية بامتياز، على الرغم من أننا نراها طريقاً للادخار.
هناك ارتباط واضح بين الادخار والتشجيع عليه، واختفاء المسألة والاستدانة، التي أخبرنا عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في حديث حكيم ابن حزام، الذى جاء وسأل النبي محمد ثلاث مرات فأعطاه، ثم قال:" إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"، حتى جاء عن حكيم، في رواية البخاري أنه لم يسأل الناس حتى مات، وهذا خير دليل على أنه أدار أموره بحكمة، وادخر من قوته، حتى لا يسأل الناس، وهذا يقودنا إلى أن الادخار فريضة غائبة عن مجتمعنا، على الرغم من حث الدين عليها، لكننا اختزلنا تعاليمه وأحكامه في الزواج والطلاق ودخول الحمام، وهوامش الأمور.
ندخر قليلا أو كثيراً ليس مهماً، لكن المهم أن تكون لدينا هذه الثقافة، وأن يكون لدينا دائماً احتياطي استراتيجي، نقطة عودة، بداية جديدة، فرصة ثانية، انطلاقة مختلفة، تُّكَأَةُ في مواجهة الظروف، وتقلبات الحياة ومساوئ الزمن، فهذا ما أستهدفه من كل السطور السابقة اليوم والأمس، وغدا بمشيئة الله أستعرض مع القارئ الوسائل والأدوات المناسبة، التي يحفظ فيها مدخراته بصورة عملية، دون مخاطر أو مغامرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة