نادى نيكولو مكيافيللى بضرورة أن يكون الزعماء السياسيون على استعداد للقيام بأعمال شريرة قد تثمر عن خير، ومنذ ذلك الحين أصبح اسمه رمزا للازدواجية واللاأخلاقية، فهل يستحق مكيافيللى هذه السمعة السيئة؟ هذا ما يحاول أن يجاوب عليه المؤلف كوينتن سكينر فى كتابه "ميكافللى: مقدمة قصيرة جدا"، ترجمة رحاب صلاح الدين، فى إجابته عن هذا السؤال على ثلاثة أعمال رئيسية لمكيافيللى هى «الأمير» و«المطارحات» و«تاريخ فلورنسا»، مستخلصًا منها مقدمة غاية فى الوضوح لمعتقدات مكيافيللي.
مكيافيللى مقدمة قصيرة جدا
رحل مكيافيللى عن عالمنا منذ نحو 500 عام، لكن لا يزال اسمه حيا كنموذج للدهاء والازدواجية وانتهاج سوء النية فى الشئون السياسية، وقد ظل "مكيافيللى السفاح" ــ كما يصفه شكسبير ــ أبدا محل بغض الفلاسفة الأخلاقيين على اختلاف اتجاهاتهم، المحافظين والثوريين على حد سواء، فقد زعم إدموند بيرك أنه رأى "الثوابت البغيضة للسياسة المكيافيللية" التى يقوم عليها "الاستبداد الديمقراطى"، الموجود فى "الثورة الفرنسية"، وشن ماركس وإنجلز هجوما لا يقل شراسة على مبادئ المكيافيللية، وأكدا فى الوقت نفسه على أن أنصار "السياسة المكيافيللية" الحقيقيين هم أولئك الذين يحاولون "إخماد الطاقات الديمقراطية" فى فترات التغيير الثورى، والنقطة التى يتفق عليها كلا الطرفين هى أن شرور المكيافيللية تشكل أحد أشد المخاطر التى تتهدد الأساس الأخلاقى للحياة السياسية.
اكتنف قدر كبير من سوء السمعة اسم مكيافيللى، إلى درجة أن كون المرء شخصا مكيافيلليا لا يزال يمثل تهمة خطيرة فى الجدل السياسى، على سبيل المثال، حينما تحدث هنرى كيسنجر موضحًا فلسفته فى لقاء شهير نشر نصه فى مجلة "ذا نيو ريببليك" عام 1972، عقب مضيفه بعد أن سمعه يناقش الدور الذى يضطلع به بصفته مستشارا للرئيس، بقوله: "المرء، إذ يسمعك، لا يتساءل إلى أى حد أثرت على رئيس الولايات المتحدة، بل إلى أى حد تأثرت بمكيافيللى" وهذا تلميح كان كيسنجر حريصا أشد الحرص على أن يدحضه، هل كان كيسنجر مكيافيلليا؟ "كلا، على الإطلاق"، "ألم يتأثر بمكيافيللى إلى حد ما؟"، "كلا البتة".
وبحسب المؤلف فأن ما يرمى إليه مكيافيللى فى المقام الأول من وراء تركيزه البالغ على الحرية، هو أن أى مدينة عازمة على بلوغ العظمة يجب أن تظل متحررة من كل أشكال العبودية السياسية، سواء كانت هذه العبودية تفرض «من الداخل» بفعل حاكم طاغية، أو «من الخارج» من قبل قوة استعمارية (195، 235)، وهذا بدوره يعنى أن القول بأن مدينة ما تمتلك حريتها يعادل القول بأنها محافظة على استقلاليتها عن أى سلطة عدا سلطة المجتمع نفسه. فالحديث عن «دولة حرة» يعادل بالتالى الحديث عن دولة تحكم نفسها، ومكيافيللى يوضح هذا فى الفصل الثانى من «المطارحة» الأولى، حيث يعلن أنه سوف "يغفل مناقشة تلك المدن" التى نشأت "خاضعة لشخص ما"، وسوف يركز على المدن التى نشأت فى حالة حرية، أى على المدن التى "تحكم نفسها بقراراتها منذ نشأتها" (195). ويتكرر هذا التعهد نفسه لاحقا فى الفصل الذى يشيد فيه مكيافيللى أولا بقوانين سولون المتعلقة بتأسيس "شكل للحكم يستند إلى الشعب"، ثم يمضى ويقرر أن العيش وفقا لهذا النظام يساوى العيش "فى حرية" (199).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة