نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964) قراءة مشروعه الفكرى الذى قدمه من خلال عدد كبير من الكتب المهمة، واليوم نتوقف عند كتابه "الثقافة العربية".
يقول الكتاب تحت عنوان "الكتابة العربية"
ثبت من الآثار المحفوظة أن المصريين الأقدمين تطوروا بالكتابة من رسم الصور إلى رسم المقاطع إلى رسم الحروف التى تُسمَّى اليوم بالحروف الأبجدية، وتُسمَّى عند الأوروبيين عامة بحروف "الألف باء تاء"alphabet نقلًا عن العربية.
وقد تبيَّنت رسوم بعض الحروف المصرية القديمة من ألواح سيناء، وهى حلقة الاتصال بين الحروف الأولى وبين الحروف على أشكالها المتقاربة التى تطورت بعد ذلك فى مختلِف اللغات.
إلا أن الحروف المصرية القديمة كانت مقصورة على الكتابة الدينية وكتابة الدواوين وما شابهها من المراجع الرسمية، وإنما انتشرت فى المعاملات العامة بعد أن نُقِلَت من سيناء إلى البلاد الواقعة على طرق التجارة الشرقية، بجميع مواصلاتها برًّا وبحرًا من الهند إلى شواطئ البحر الأبيض وحدود البلاد المصرية.
وقد كانت مراكز التجارة الكبرى على هذا الطريق فى بلاد العرب، من خليج العرب إلى عدن إلى خليج العقبة، إلى مدن فلسطين ومدن الحدود الشرقية فى مصر القديمة.
ولم يكن من المصادفة المجهولة أن تظهر فى لغة العرب خطوط الحرف المسمارى وخطوط الحرف المسند وخطوط الحرف النبطى بين شمال الحجاز وجنوب فلسطين.
فإن التجارة التى تحتاج إلى المعاملة الكتابية تجرى على خط المواصلات من خليج العرب إلى عدن إلى العقبة إلى ما جاورها من بلاد الأنباط والكنعانيين، وهذه هى على التوالى مواطن الخط المسمارى والخط المسند النبطى وما تفرَّع عليه.
وتجرى المواصلات على غير هذا الخط من طريق البادية بين وادى النهرين وشواطئ البحر الأبيض؛ فليس من المصادفة المجهولة أيضًا أن توجد على طريق هذه المواصلات بقايا الكتابة الصفوية والكتابة اللحيائية والثمودية فى حوران وتدمر والحجر من ديار ثمود؛ ففى هذا الطريق يتقابل أصحاب القوافل من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، كما يتقابلون بين الحجاز والشام وبين الشام والحجاز.
والغالب على التجارة العربية أنها تسلك طريق البر على ظهور الجمال، ولكنها لم تكن معزولة عن البحر كما يتوهم الكثيرون لاعتقادهم أن أصحاب سفينة الصحراء لا يعرفون سفينة غير الجمل، ولا يركبون مطية البحر أو يحسنون قيادتها كما يحسنون قيادة المطايا على الرمال؛ فإن العرب ركبوا البحر قديمًا فى المحيط الهندي، وسبقوا الملاحين إلى شواطئ أفريقية الشرقية فى الجنوب، ووجدت فى بلادهم صناعة بناء السفن عند العقبة وعمان، ولم يكن سليمان الحكيم — بطبيعة الحال — أول مَن بنى سفنًا بجوار العقبة، ولكنه وجد هذه الصناعة وعمل سفنه فيها كما جاء فى سفر الملوك الأول: "وعمل الملك سليمان سفنًا فى عصيون جابر التى بجانب أيله على شاطئ بحر سوف فى أرض أدوم".
وسُمِّيت هذه الجهة قبل الإسلام بفرج الهند كما قال الطبري؛ لأنها كانت — ولا شك — تتلقى التجارة من طريق البحر والبر، ولا تزال على اتصالٍ بالملاحة البحرية مع اتصالها بالقوافل على ظهور الجِمَال.
ويقول المسعودي: إن الملاحين العرب كانوا يديرون قيادة السفن ويدونون تجاربهم فى الكتب المتوارثة عن آبائهم من زمنٍ قديمٍ، وكان فى بحر الهند كما قال: "مشائخ وُلِدُوا ونشَئُوا من ربابين وأشاتمة ووكلاء وتجار، ورأيت معهم دفاتر فى ذلك يتدارسونها ويعولون عليها".
ومثل هذه الصناعة لا تنشأ فى سنوات ولا فى أجيال قليلة؛ فلا بد لها من أجيال بعد أجيال طوال.
على أن الأمر المهم فى هذا التاريخ أن المواصلات كانت قائمة دائمة على هذه الطرق القديمة من أوائل عصورها، وليس بالمعقول أن يكون الأمر غير ذلك بحكم الموقع وحكم العلاقة بين المشرق والمغرب؛ فإذا استخدم الناس الكتابة فى معاملاتهم التجارية فليس فى العالم المعمور يومئذٍ موقع أولى باستخدامها من البلاد العربية، وليس من المصادفة — كما تَقدَّم — أن تكون الخطوط المسمارية وخطوط المسند وخطوط الحروف النبطية أول ما تطور من حروف الأبجدية بعد مرحلتها التى بلغتها فى ألواح سيناء.
ومن الواضح أن صناعة السفن لم تكن عامة فى بلاد العرب وما جاورها عموم الملاحة على شواطئها فى البحرين: الأبيض والأحمر، وإنما توجد صناعة السفن حيث تتيسر وسائلها من الأخشاب والمعادن ومواد اللحام والطلاء، وحيث تتيسر إلى جوارها مراسى السفن للبناء والإصلاح والمأوى؛ ولهذا كانت شواطئ البحر الأبيض الشرقية أعمر الشواطئ بمراكز هذه الصناعة ومراكز الملاحة معها؛ لأنها نهاية الطرق البرية من قبل آسيا، وبداية الطرق البحرية إلى القارتين الأوروبية والأفريقية، وإلى جوارها غابات الشجر الذى يصلح لبناء السفن وموارد المواد المنوعة التى تدخل فى صناعتها؛ فكانت شواطئ فلسطين ولبنان أعمر الشواطئ الشرقية بأسباب الملاحة والملاحين ومراكز التجارة التى تصدر من البلاد أو ترد إليها من خارجها، وكانت هذه الشواطئ هى التى اشتُهرت عند اليونان باسم "فينيقية"، ونسبوا إليها كل ما استوردوه من بلاد العرب على طريقها، وتواتر عندهم أنها البلاد التى تلقوا منها الحروف وعلم الكتابة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة