رسم أحد الأكاديميين المرموقين في علم اللاهوت الإسلامي خريطة الدول التي تسير على طريق تجديد الخطاب الديني، ضاربا الأمثلة بدول عربية وإسلامية، ليس من بينها مصر -وهو في رأي، تحيز خارج إطار الموضوعية، ولا يعكس واقعا من الجدل المستمر حول قضية قديمة جديدة ومتجددة دائماً، سالت من أجلها دماء ودفع آخرون في سبيلها ما تبقى من عمرهم نفيا تارة وتجاهلا وحروبا نفسية تارة أخرى.
إن بلد كبير بحجم مصر بمثقفيه وعلمائه ومجتمعه(المدني) غير الديني، لا يمكن اختصاره في مؤسسة دينية أو في جماعة أو فقهاء ودعاة ووعاظ الشارع، بل في مجتمع يطور نفسه باستمرار ويفجر الأسئلة حول قضايا دينية شائكة من خلال وسائل الإعلام القديمة من صحف وإذاعات وفضائيات والجديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الندوات والمؤتمرات العامة والبحوث والنقاشات الأكاديمية، ولن أكرر النظرة المثالية للماضي، لأذكر جهود رواد الإصلاح الديني الراحلين مسلمين ومسيحيين، رجال دين وليبراليين ويساريين ومستقلين: حسن العطار، رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، علي عبد الرازق، عبد المتعال الصعيدي، محمود شلتوت، طه حسين، رجب البنا، زكي نجيب محمود، جورج قنواتي، خليل عبد الكريم، وليم سليمان قلادة، محمد أحمد خلف الله، محمد سعيد العشماوي، فرج فودة، حسن حنفي، زكي بدوي، نصر حامد أبوزيد، علي مبروك وآخرين. ومن الأحياء لا يزال الجدل مستمرا حول التراث والحداثة وما بعد الحداثة في كتابات وآراء أحمد عبد المعطي حجازي، أحمد كريمة، أسامة الأزهري، جابر عصفور، سعاد صالح، سعد الدين الهلالي، صلاح فضل، عبد الله النجار، نبيل عبد الفتاح وغيرهم.
كان من الممكن أن يشير الأكاديمي الذي أعتز به وبدوره الإصلاحي، إلى وجود تيارات تقف مع الإصلاح الديني داخل المؤسسات الدينية الرسمية بقوة وأخرى تقاوم ذلك الإصلاح بنفس القوة بل أشد ضراوة، وهو ما ظهر بعد ثورة 25 يناير 2011 في اجتماعات المثقفين مسيحيين ومسلمين ومن تيارات مختلفة بالأزهر، ومنهم ليلى تكلا، سمير مرقس، محمود حمدي زقزوق، جابر عصفور، حلمي النمنم، صلاح فضل، مصطفى الفقي وغيرهم، بناء على دعوة الإمام الأكبر الدكتور احمد الطيب شيخ الأزهر، وأثيرت نقاشات حول تجديد الخطاب الديني وتمكين المرأة والحريات العامة، والدولة المدنية (اللادينية)، حتى صدرت خمس وثائق هي: وثيقة مستقبل مصر (19 يونيو 2011)؛ وثيقة الربيع العربي (31 أكتوبر 2011)؛ وثيقة الأزهر عن منظومة الحريات الأساسية (8 يناير 2012)؛ وثيقة الأزهر الشريف لنبذ العنف (31 يناير 2013)؛ وثيقة حقوق المرأة(2013 (.
إن الإنصاف يقتضي إبراز دور الراحل الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي نائب رئيس الرابطة العالمية لخريجي الأزهر في إصدار سلسلة "تفنيد الفكر المتطرف" ومنها مفهوم المواطنة والتوظيف السياسي للدين، وجهود الراحلين محمود حمدي زقزوق، ومحمود عزب في انفتاح الأزهر على الآخر وتأسيس " فقه الحوار".
نعم هناك عقبات وعوائق ومعارك وإشكاليات وبيئة سلفية وافدة، وعقول تراثية جامدة لكن المعركة طويلة ومستمرة لم تنقطع، في بلد يموج بالحراك الثقافي والاجتماعي، ولا يمكن استبداله بدول غير مركزية جغرافيا ولغويا وتأثيرا ودورا، وهذا بعض من فيض و"ليست هكذا تورد الإبل".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة