"التمثيل في الحياة من قبل بعض الناس هو التمثيل والكذب، لكن التمثيل أمام الشاشة هو الصدق".
كانت هذه النظرة الفلسفية العميقة للراحل العظيم أحمد زكي لفن التمثيل راسخة في ذهنه طوال الوقت، وهو القائل أيضا: "مهنة التمثيل كل ما أخلصت لها وأعطيتها من وقتك وجهدك، وموهبتك، أعطت لك مفاتيحها، وهذه المفاتيح لا يعثر عليها النجم الشاب بسهولة، ولكنها تأتي بالتراكم والخبرة والنضج، فأحيانا أنظر لأعمالي القديمة وأصرخ قائلا "ايه اللي أنا بهببوه ده"، وأعتبر نفسي أسوأ فنان في العالم، لكن وقتها أكيد كنت معجب بنفسي أو على الأقل الناس اتبسطت مني.
نعم "انبسطنا" منك، فعبر ثلاثين عاما وأكثر أبهرنا خلالها الفنان الراحل الكبير "أحمد زكي"، بأدواره التي تنوعت ما بين الهزلية والرومنسية والمأساوية على خشبة المسرح، وشاشتي السينما والتليفزيون، فقد أتي هذا العبقري في فن التمثيل بطريقة أداء جديدة علينا، طريقة خاصة تعتمد على التحضير النفسي والتماهي مع الشخصية التي يجسدها من لحم ودم، ليصبح الأمر بالنسبة له أقرب للتجسيد الحقيقي والواقعي من كونه تمثيلا، وهى طريقة تختلف كليا عن ذلك المتعارف عليه في فن التمثيل الكلاسيكي، فهو يعتمد على أسلوب أقرب للتصرف بطبيعية، بحيث يظهر الشخصية التي يجسدها بحركات جسدية أقل، ولكن بتماه نفسي مع الشخصية بشكل أكبر، حتى أنك تلحظ أنه يتوحد معها ويجسدها في بعض الأحيان داخل وخارج أوقات التصوير.
وقد لاحظت ذلك بنفسي، ففي أثناء استعداده للتحضيرات الخاصة بفيلم "أيام السادات"، ذهبت للقائه مع رفيق العمر الإعلامي "خيرى رمضان"، والزميل والصديق العزيز"محمود موسى" بأحد الفنادق الكبرى المطلة على نيل القاهرة، وعندما دخلت على ثلاثتهم مبادرا بالسلام، هم "زكي" واقفا ورد على بنبرة سادتية خالصة قائلا: "أهلا يا إبني"، وكأنه قد لبس الشخصية قبل أن يجسدها أمام الكاميرا، ولما سألته لماذا ترد على الطريقة الساداتية، قال مبتسما بعينان لامعتان تعكسان صفاء الموهبة: هكذا يكون حالي مع كل شخصية أوديها، حيث أقوم بدراستها جيدا وألتمس كل مراحل حياتها الخاصة حتى أقف على كل تفصيلة صغيرة وكبيرة تتعلق بها، وأعيش حياتها قبل أن أجسدها أمام الكاميرا.
إنه هنا يتبع "التمثيل المنهجي Method Acting"، وإذا كان للتمثيل المنهجي والتجسيد النفسي للشخصيات علامات مميزة، فإنها عادة تتركز في نظرات العيون، كما لاحظت عند زكي وهو ينظر لي وللصديقين "رمضان وموسى" بنظرة تكاد تكون مطابقة تماما لنظرة "السادات" طوال فترة اللقاء الذي دام أكثر من ساعتين، وكأن روح السادات تطوف من حولنا في تلك اللحظات، وشعرت يقينا أنه تلبس روح الراحل العظيم بطل الحرب والسلام، وبدت نفس نظرة عيني السادات في عيني أحمد زكي، وتلك في الواقع وسيلة الممثلين الأكفاء الأولى للتعبير عن مشاعرهم في فن السينما الذي بدأ صامتا، وكما يقول الممثل الإنجليزي الحائز على جائزة الأوسكار مرتين "مايكل كين"، في كتابه "التمثيل في الأفلام Acting In Film": في نهاية اليوم، وعندما يتعلق الأمر بالتمثيل في الأفلام، فإن كل شيء يدور حول العيون.
لقد تابعت تحضيرات أحمد زكي بعد هذا اللقاء، حيث ذهبت إليه في أحد الفنادق التي كان يقيم فيها - آنذاك - ولاحظت أن أرض الجناح الذي يسكنه مكدسة بأوراق لعشر سيناريوهات على الأقل، وكان يحفظ جميعها عن ظهر قلب، وهو ما تأكدت منه عندما كان يستعين ببعض الأوراق التي يلتقطها ليريني مشهدا محددا، لقد كان على يقين تام بأنه سيجسد دور رجل يعرفه الجميع، يعرفون لزماته وحركاته، لكنه يجسده لا يقلده، وهنا يحكي زكي بنفسه بعد نجاح الفيلم قائلاً:
أحزن حزنا شديدا حينما يخبرني البعض أنني نجحت في تقليد السادات أو عبد الناصر، التقليد هو إظهار لقطة أو لزمة ما متعارف عليها في إنسان معين للتعبير عنه، شيء يشبه الكاريكاتير، التقليد يثير الضحك، حتى لو كان التقليد لمشهد لشخص يبكي، لكن التشخيص، أو التجسيد، علم مختلف تماما، مستطردا في حديثه عن السادات: كيف كان يحب هذا الرجل؟، ومن ثم فقد ذهب في دراسته العميقة للشخصية في البحث الدقيق والمتأني لـ "كيف ينام السادات؟ كيف يعمل؟ كيف ينفعل؟ كيف كانت طفولته، علاقته بأسرته، أحلامه وأحزانه؟" هذه هى رحلة التشخيص كما فهمها "أحمد زكي" وكان يطبقها مع كل الشخصيات التي يقوم بتجسيدها على الشاشة.
ولأنه واحد من أولئك الذين يمكنهم أن يوصلوا لك روح الدور عبر الأداء التمثيلي، ويجعلك تشعر بجودة تعليمات الإخراج، وهو أيضا من يجعلك ترى الحوار حقيقيا وتستكشف جودة الكاتب، هو من يجعلك تضع يدك فوق جودة أو إخفاق ملموسين يمكنك ببساطة اكتشافهم حتى إن لم تكن متخصص في الفن، وتقيم الأمور من منظور عين المشاهد، ففي معرض حديثه لي بعد فيلمه "ناصر 56" قال: هناك من يقولون إنني شاهدت صورا ومقاطع مصورة قديمة وأديت نظرة ناصر من خلالها، لكني في الحقيقة ولكي أحصل على نظرته كان لابد أن أدرك سببها، الأمر أشبه بأحد تكنيكات الطب النفسي.
ويضيف: لنعد للوراء، عبد الناصر طفل يتيم، فقد أمه عند 6 سنوات، تزوج والده، ترك بيته وأقام عند خاله - تأمل مليا ماذا كان يرمي هذا الممثل العبقري بعودته في بحثه لجذور الشخصية من خلال طفولة ناصر - هذا طفل من الطبيعي أن يجلس صامتا ومتأملا، يحاول قدر إمكانه ألا يكون عبئا على أحد، يكبر بعدها صبيا في الشارع السياسي، وجد شيئا يشعره بالانتماء إليه، لم يعامله الصبية الثائرون حينها كيتيم، عاملوه كصبي مكتمل، وجد نفسه أخيرا، التحق بعدها بكلية الحقوق مدفوعا بحبه لما رآه في الشارع السياسي، ثم طلب الجيش 50 شابا فكان من بينهم.
وفي سلسلة بحثه الدؤوب حول رحلة الزعيم خالد الذكر يستمر في تحليله للشخصيىة قائلا : كبر عبد الناصر بنفس النظرة التي كبرت معه شيئا فشيئا، صامتا، يبدو منطويا إلى حد ما، لا يتكلم إلا بعد أن يتأمل، هنا أنا لا أنظر إليه كونه ناصر، أنا أنظر للشخصية التي سأجسدها، ومن هنا جاءت النظرة، إن لم أفهم كل هذه الرحلة لن أكون سوى مقلد، هذه النظرة هى فن التشخيص، وهي عملية قريبة جدا مما يقوم به الطبيب النفسي من عملية تحليل نفسي، إنه ذكاء الموهبة التي تمتع بها أحمد زكي طوال رحلته التي تميزت بالتنوع الشديد على مستوى الأدوار التي قدمها بعذوبة واحترافية لم يصل إليها أحد من بعده حتى الآن.
يمكننا تلخيص علاقة هذا الفنان المصري الموهوب والمفتون بفن التمثيل الذي أحبه وأخلص له، وأفنى روحه ووجدانه في تجسيد كل تلك الشخصيات التي جسدها بعفوية وفطرية نادرة، معتمدا في ذلك على تحليل خلفياتها واضطراباتها بشكل قريب جدا من مدرسة التحليل النفسي التي ابتدعها "فرويد"، وتلبسها على طريقة التمثيل المنهجي، فلم تقل عبقريته عن عبقرية كبار نجوم هوليوود الذين توجوا بالأوسكار وغيره من الجوائز المهمة، ومن ثم لايمكن مقارنته بأحد من شباب اليوم.
لقد أدرك زكي تأثير كل هذا التشخيص عليه، ولكنه أدرك في الوقت ذاته قيمته كفنان مسكون بالموهبة، ففي خلال رحلته الطويلة في عالم التمثيل كثيرا ما كان يحاكي نظرية "أرسطو" في التنفيس، أو ما يمكننا وصفه بأن الجماهير تشعر بالترويح والتنفيس عن آلامها النفسية، حينما تشاهد هذا الآلام وهي متجسدة في عمل فني، مثل "البرئ، أرض الخوف، إضحك الصورة تطلع حلوة، البيه البواب، شادر السمك، زوجة رجل مهم، الإمبراطور، كابوريا"، وغيرها من أفلام تعد علامات بارزة في تاريخ السينما المصرية.
وبالعودة إلى بداياته سوف نلحظ أن فرصة "زكي" الأولى للعمل كانت بينما كان لا يزال يدرس في معهد الفنون المسرحية عام 1969، إذ أدى دورا بسيطًا كعامل في خدمة الغرف في مسرحية كوميدية بعنوان "مرحبا شبلي"، إلا أن الممثل الرئيسي لم يظهر في تلك الليلة، واستطاع أحمد زكي الذي كان يعمل بائع مشروبات غازية استكمال الليلة، وتمكن من تقديم صور هزلية مثيرة للإعجاب، ولا سيما انتحال شخصية الممثل الشرير "محمود المليجي"، وتمكن من كسب رضا الجميع بموهبته تلك.
وربما أشاد كثير من النقاد والجمهور بشخصية "أحمد" الشاعر في مسرحية "مدرسة المشاغبين" الكوميدية، لتبدأ رحلة أحمد زكي نحو النجومية بحصوله على دور البطولة في المسرحية الكوميدية "العيال كبرت" عام 1978، ثم انتقل إلى التمثيل التلفزيوني مؤديًا دور عميد الأدب العربي طه حسين في مسلسل "الأيام"، وكان أول أفلامه "أبناء الصمت" عام 1974، وفي عام 1980 كان قد مثل ستة أفلام بما فيها "الإسكندرية ليه؟"، وهو من إخراج المخرج العبقري يوسف شاهين، وتقدر أفلام أحمد بأكثر من 60 فيلمًا على مدار حياته.
كانت العديد من أفلامه للكاتب وحيد حامد قد صور معظمها كرسالةٍ سياسية قوية، من خلال عرض الفساد الحكومي وفساد الشرطة، كما تألق زكي في الثمانينيات في السلسلة الكوميدية التلفزيونية "هو وهي" التي شاركته بطولتها الفنانة القديرة سعاد حسني، كما قام بالعديد من الأفلام الناجحة خلال منتصف وأواخر التسعينات، وكان من أعظم أدواره تجسيده دور الرئيس المصري في فيلمين أصبحا من معالم السينما العربية، فلعب دور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في فيلم "ناصر 56" عام 1996، وجسد شخصية الرئيس أنور السادات في فيلم "أيام السادات"، كما كان هناك احتمال لتجسديه دور الرئيس حسني مبارك في فيلم ثالث.
ومن أبرز أقواله المهة عبر أحاديثه للصحافة والتليفزيون، والتي تعكس جوهر شخصيته الحقيقية كإنسان وفنان مسكون بالموهبة الحقيقية:
** كنت منطويا جدا فى طفولتى ومراهقتي، الأشياء كانت تنطبع في ذهني بطريقة عجيبة، تكوين الناس، ابتساماتهم، سكوتهم، في ركن منزوي أجلس فيه واراقب العالم، وتراكمت في داخلي مشاعر وأحاسيس، وشعرت بحاجة لكي أصرخ، لكي أخرج ما في داخلي، وكان التمثيل هو المنقذ.
** كل شخصية أوافق عليها لابد من أن أقدمها بصدق كبير، وقبل الصدق الحب الكبير، فأنا إنسان لا أعيش فى هذه الحياة إلا لأجل فني وابني فقط، ليس لي أية أطماع أو تطلعات غير مشروعة فى هذه الدنيا غير أن تتاح لي الفرصة كي أقدم الفن الذي أحبه وأعشقه".
وأخيرا يقول فناننا الراحل أحمد زكي: "ما أفعله يشبه كثيرا ما يفعله الطبيب النفسي، ولكن الطبيب النفسي يحيد الشخصية التي يقوم بتحليلها عن جهازه العصبي، كي لا يتسلل إليه بعض مما تشكو منه هذه الشخصية، أما أنا فأقوم بنفس العملية، ثم أتلبس هذه الشخصية بشكل مكتمل، أعاني من كل ما تعاني منه الشخصية، وربما قد يستمر الأمر معي حتى بعد نهاية الفيلم، ولكني في النهاية أرى أن ما أؤديه على الشاشة ربما يكون نوعا من العلاج الجماعي".. رحم الله أسطورة التمثيل المصرية الحقيقية الذي غادرنا يوم 27 مارس 2005، "أحمد زكي متولى بدوي"، الشهير بـ "أحمد زكي"، وأسكنه فسيح جناته بقدر ما قدم لنا من متعة بصرية فائقة الجودة، ماتزال تسكن نفوسنا رغم مرور 15 عاما على رحيله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة