نجح مسلسل "الأخ الكبير" كنوع من الدراما الاجتماعية فى ثوب شعبى فى إثبات حقيقة أن هذا اللون من الدراما يمكنه أن يجذب الأنظار من ناحية، ومن ناحية أخرى يقوى على إثارة الشغف فى نفوس جمهور متعطش إلى فيض من المشاعر الصادقة التى تجنح نحو علو شان "العائلة"، وسط دراما الغضب والعنف والعشوائية التى زحفت على مجمل حياتنا فى السنوات الأخيرة.
المسلسل المكتوب بعناية خاصة، من جانب المؤلف "أحمد عبد الفتاح" ليعبر بصدق وواقعية عن روح الحارة الشعبية، ويعكس "جدعنة ولاد البلد"، كما تتجسد فى تلك الحارة وتحديدا فى بيت "الأخ الكبير"، أو "حربى أبو رجيلة"، الذى جسده ببراعة النجم "محمد رجب"، حيث يجود بالحنان والشهامة على كل من حوله، سواء أهل بيته وأصدقائه، وحتى الغرباء الذين يلتقيهم فى أثناء عمله اليومى على سيارة أجرة ومن ثم أدخلته تلك "الطيبة" فى العديد من المشكلات، ولكنه كان دوما يحلها بحكمة مصحوبة بطابع حنية "الأخ الكبير".
جمع السيناريو الحوار بين الطابع الرومانسى والاجتماعى والحركة والإثارة والتشويق مع "تاتش" كوميدى خفيف فى بعض المواقف، ليحقق خلطة درامية فائقة الجودة، الأمر الذى جذب إليه المشاهدين، ليتصدر الـ "ترند" لفترات طويلة تماشيا مع تصاعد الأحداث، وتزامنا مع فك طلاسم اللغز حول مقتل "صفية" التى صنعت العقدة الرئيسية فى المسلسل، وتلازم معها مقتل "فريدة" خطيبة "كريم"، الذى لعب دوره "محمود حجازي" بأداء احترافي.
أجمل ما فى سيناريو أحمد عبد الفتاح أنه كان ينقلنا داخل الحلقة الواحدة بشغف على جناح الإثارة والتشويق إلى بيئتين: أولهما "الحارة المصرية"، حيث ماتزال تتمتع بقدر هائل من الأصالة والجدعنة ورجولة سكان تلك المناطق الشعبية، خاصة أن الأحداث فى غالبها وقعت فى منطقة "بولاق"، بما لها من خصوصية ماتزال تحمل نبض الحارة المصرية، وبين المجتمع المخملى لطبقة رجال الأعمال، ولقد برع "عبد الفتاح" مع المخرج إسماعيل فاروق" فى توظيف المشاعر فى كلا البيئتين من خلال عدة شخصيات يمثلون الأسرة المصرية التى تشبهنا جميعاً.
يأتى على رأس تلك الشخصيات بالطبع "حربى أبو رجيلة" والذى رسم له السيناريو شخصية الشاب المكافح المسئول عن بيته، وكذلك زوجة حربى "عبير" التى قدمتها "دينا فؤاد" فى ثوب يتسم بالحنية والرومانسية وتحمل المسئولية فى غياب الزوج، تجاه أهل زوجها، كما أنها تعيش معهم بمثابة عائلتها، أما شخصية "صفية" ذلك الوجه الملائكى فقد عبرت عنه هبة مجدى بعذوبة شديدة،، وكذلك الأب"أبو رجيلة الذى لعبه أحمد حلاوة فى تلخيص غير مخل لصورة الأب الذى أصيب بنكبات متتالية تمثلت فى بموت "صفية" وتشريد حربى ومرض ابنته الصغيرة "صباح" فضلا عن متاعب حفيدته "صفية" ابنة "حربي".
ونأتى الآن لتقييم الأداء الاحترافى الذى برع فيه "محمد رجب" فى تجسيد شخصية "حربى أبو رجيلة"، حيث قدمه بتركيبة مصرية خالصة، تتمتع بذكاء شديد، وجمع بعفوية شديدة بين الشجاعة والشهامة والرجولة والجدعنة والرومانسية فى قلب أحداث اتسمت فى غالبها بالقسوة، حتى أنها حدت كثيرا من الطابع الكوميدى الذى تمتع به فى الحلقات الأولى، قبل مقتل أخته "صفية" التى قبلت الأحداث رأسا على عقب وفراقت الابتسامة وجهه إلى نهاية الحلقات.
جمع "رجب" بين مختلف الصفات فى "توليفة" فريدة، فهو شاب مثل معظم شبابنا اليوم، ظروفه صعبة للغاية، لكنه طَموح، غلب كل محاولات الإحباط التى كانت تلاحقه، وعلى الرغم من تعرضه دوما للمطاردة، إلا أنه احتفط على طول الخطوط الدرامية بكرامته التى غلبت كل احتياجه للمال، ، فقد كان دوما تجمعه بشقيقته "صفية" علاقة خاصة جدا يشوبه الحب والحنين، ويجلب لها ما تحتاجه دون أن تقول، فقد كان يقرأ أفكارها التى تدور فى رأسها، ويعافر مع مشاكله، ويحاول حلها رغم كافة الضغوط، وربما كان ذلك هو المبرر المنطقى الذى جعله حقاً "الأخ الكبير" الذى يحتوى ويطبطب ويفيض رومانسية مع زوجته "عبير".
يبدو لى "محمد رجب" من أولئك الممثلين الذين يمكنهم أن يوصلوا لك روح الدور ويجعلك تشعر بجودة تعليمات الإخراج، وهو ما جعلنا طوال الحلقات نرى الحوار حقيقيا ونستكشف جودة الكاتب، ولعل نجاحه فى التقمص، بحيث تلبس باحترافية وإتقان شخصيةً "حربى أبو رجيلة"، وعاش فيها بشكل مقنع إلى حد إحساس المشاهد أن ما يحدث أمامه حقيقيًا، وهكذا فلا يستطيع الممثل أن يقول أنّه قد نجح فى أداء دوره، إلا إذا استطاع إيصال رؤية الكتاب التى أرادها ورسمها للشخصية على الورق، ليتلقاها المشاهد ببساطة، مستعينًا فى هذا بكافة أدواته، بصوته ونبرته وارتفاعه، بملامح وجهه، بحركة جسده، وحتى فى بعض المدارس التمثيلية بالانطباع النفسى الذى يتركه لدى المشاهد.
وقد ظهر كل ذلك فى إظهار تكشيرة واضحة على الوجه لازمته طوال الأحداث، والغضب الذى كان يعنى حركات عصبية مبالغة أحيانا وصوت جهورى، والضيق الذى يعنى بكاء حارا بصوت مرتفع، بينما الفرحة تبدو معه كقهقهات متعمدة تحمل فى ثناياها قدرا من التراجيديا، إن "رجب" هنا يعد واحدا من رواد المدرسة التى يعتمد فيها الممثل على تكنيك خاص فى إيصاله مشاعره المتدفقة بعفوية، لا يعمد فيها على تمثيله بالصوت والحركة، بل يعتمد أحيانا على الحركة المبالغ بها والصوت الجهورى والإلقاء الرنان، وهو بهذا يسير على طريق الممثل الفرنسى "كوكلان الأكبر" الذى يقوى جيدا على عزل عواطفه تمامًا عن أدائِه، وترك صوته وحركة جسده يصفون الحدث للمشاهد.
والحقيقة من خلال متابعتى الدقيقة لتطور الأداء عند "رجب" فقد لاحظت أنه تلميذ نجيب للعظيم "ستانيسلافسكي" صاحب كتاب "إعداد الممثل" فى حرصه الشديد على الانتباه للمشاعر والعاطفة معا فى سياق درامى واحد، وإضافتها للأداء، وأنه ينظرا دوما إلى أن الأداء يجب أن يكون أكثر واقعيةً لا أكثر فخامة، لهذ فهو يحرص جيدا على أن يتحدث مثلما يتحدث البشر فى الحياة الواقعية، ليغدو من أولئك الممثلين التى يجب أن يحصلوا عليها الخيال، والارتجال فى أسلوب الشخصية فى التعبير عن نفسها، وكذلك تحليل السيناريو والشخصية للوصول لجوهرها والتعبير عنها.
ولعل وجود "إيهاب فهمى" فى دور "شريف" رجل الأعمال الخبيث كان متوازيا تماما مع أداء "رجب"، لأنه ممثل يتأسس أداءه على فعل التواصل الحى بين الممثل والمتلقي، وذلك وفق اشتغال طاقة الممثل الأدائية المكونة من قدراته الجسدية والصوتية وكينونته الذاتية المتمثلة بقنوات التعبير الحسية، التى كانت تعلو مع "إيهاب" بوتيرة منتظمة من حلقة إلى أخرى، لتؤكد لنا إن تلك القدرات تتميز ببث العلامات المركبة فى قناة مشتركة، تعمل كمرسل فاعل لتحقيق غاية الأداء التواصلية فى إيصال الرسالة الفكرية والجمالية، وهى ترتبط عنده بالرعاية للنواحى الإلقائية والحركات والإيماءات التى جاءت لتؤكد قدرته على الأداء الصعب.
ثانى نجوم الأداء فى مسلسل "الأخ الكبير" هو العملاق "أحمد حلاوة" فى دور الأب "أبو رجيلة"، والذى اتسم أداءه بالاعتماد دائما على ذاكرة شعورية قوية واستحضارها عند الأداء، فيجب على الممثل أن يستحضر موقفًا وشعورًا قويًا حدث له فى الواقع مقارب أو شبيه لحالة البطل، وهكذا فإنّ حضور المشاعر والعاطفة وزيادة التأكيد على نفسية الأبطال، والتعبير عنها بملامح الوجه ولغة الجسد والصوت، هو أهم ما يميز أداء "حلاوة" فى حكمته وخوفه على أبنائه، وباقى سكان الحارة
ثالث نجوم الأداء "هبة مجدي" والتى لعبت دور "صفية" كعادتها فى إطار من البساطة فى الأداء، وعدم استغلالها لملامحها الرقيقة لتحصرها فى أدوار معينة، بل جسدت دور الأخت الخلوقة التى تعشق أخيها وتحمل بين جوانجها قدر من السذاجة الفطرية غير المتعمد، وهى لا تبدو فى أدائها من الممثلات اللاتى يحيكن الدور والمشاعر والأفكار للشخصية التى يلعبها فى رأسها لتتقمصها، بل ركزت على خروج هذه المشاعر، وتفاعلها مع الممثلين انطلاقا من قاعدة أن التمثيل فعل ينتج من التفاعل مع الآخرين ومن ردود أفعالهم على الأداء نفسه.
رابع الممثلين أصحاب الأداء الاستثنائى هو "محمد عز" الذى استطاع أن يجسد دور "صاحب صاحبه" باحترافية، فوظف ايماءاته وتعبيراته جيداً، كى يظهر "رجولة" ابن البلد، كما أنه فى ذات الوقت امتلاك مهارات صوتية أدائية تجعله من أهم صفات الممثل القادرة على اجتذاب الجمهور وإجبارهم على الإصغاء وهى واحدة من أهم صفات الممثل الناجح التى تمكنه من التحكم بدرجة صوته وتنويع نبرته وإيقاعاته، وهى أكثر صفة لفتت انتباهى فى أدائه.
خامس العناصر الناجحة على مستوى الأداء فى هذا المسلسل النجم الشاب "محمود حجازي"، والذى يبدو لى أنه يدرك جيدا مدى أهمية الأداء الصوتى فى التمثيل، ويعى جيدا تعريفه القائل بأنه هواء يتموج بتصادم جسمين، وصوت الإنسان يحدث بتموج الهواء الخارج من الجوف فى عملية الزفير، ويشكل الصوت عاملا مهما فى إظهار التباين بين الناس كما أنه يحدد نمط الشخصية وصفاتها النفسية والملامح والسمات والطبائع التى تتمتع بها وعمرها فى كثير من الأحيان، تماما كما فعل "حجازي" فى كل حركاته وسكناته مع شخصية رجل الأعمال الشاب "كريم" الذى جمع فيه بين الشر والعاطفة بنعومة وإتقان عجيب.
السادس فى سلسلة المجتهدين حقا فى "الأخ الكبير" هو "محسن منصور" أو "الأسطى جمال"، فقد بدا ممثلا من الوزن الثقيل بامتلاكه طاقة خلاقة ومبدعة على إطلاق الإفيه فى قلب أقوى المشاهد التراجيدية، ليحيل الموقف إلى مشهد كوميدى يقوى على رسم ابتسامة رائقة على وجهك، وكأنه طيف جميل يأتى دوما فى موعده، ورغم ملامحه التى تبدو قاسية، فإنه سرعان ما يتحول إلى طفل وديع ومحبب لكل من حوله بشهامته ونبله وإيثاره وإخلاصه لصديقه حربى وكافة أفراد أسرته، ولقد كان رائعا جدا فى اسقاطاته اللفظية على على "سونا" التى لعبت دورها بجمال وعذوبة شعبية تذكرك بسيدات من زمن جميسل يصعب تكراره حاليا.
سابعة الأداء الجميل هى "أيتن عامر"، تلك الممثلة التى لايقترب منها الفشل أبدا فى تجسيد أية شخصية تختارها، فهى دائماً وأبدا تبهرنا كعادتها فى الأداء، خاصة فى لعبها دور الفتاة الطيبة لدرجة السذاجة "نور" الهاربة من واقع مرير إلى واقع أكثر مرارة، لكنها تملك قدرة نفسية على التكيف مع ظروفها، و"أيتن" من الممثلات اللاتى تملك الكثير من ألوان الفنون التعبيرية التى هى بحاجة لتظافر كافة العوامل الإخراجية والفنية والأدائية الممكنة، وهو ما يعكس نجاحها عن مدى استيعاب المخرج للنص ومدى نجاحه فى تجسيده واستشعار الممثل للدور الذى يقوم على تأديته والذى يعتمد فى أحد أوجهه على بلاغة الحوار والبناء الروائى أو ما يسمى الفن الدرامي.
أستطيع القول بأننا فى النهاية، نحن أمام عمل درامى متكامل الأركان، وناجح بشهادة الجمهور، ورغم أن اللغز حول: من الذى قتل صفية ظل حائرا طوال الـ 45 حلقة أمام المخرج وكاتب السيناريو، لكن بدا معروفا من جانب المشاهد، ومع ذل لم يققل هذا أبدا من الإثارة والتشويق من حلقة لأخرى بفضل المفارقات والمطاردات - التى طالت أحيانا - لكن ظلت الأحداث تتصاعد بشكل جيد، وقوامها استعادة روح العائلة والحارة الشعبية الخالية من العنف والبلطجة والعشوائية التى افتقدناها كثيرا فى أعمالنا الحالية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة