استغاث الرئيس الموريتانى «مختار ولد داده» بالرئيس جمال عبدالناصر عام 1963، قائلا: «الهوية العربية لموريتانيا فى خطر، وسوف تضيع إذا لم تتحرك مصر».. فتحركت مصر، حسبما تؤكد جريدة «الأهرام» فى عددها الصادر يوم «14 يناير 2014».
استقلت موريتانيا عن الاستعمار الفرنسى فى 28 نوفمبر 1960، وكان «ولد داده» أول رئيس بعد الاستقلال، فلقبوه «أبو الأمة الموريتانية»، وفور الاستقلال اتجه لمصر وعبدالناصر، وحسب الدكتور خالد غريب مدير المركز الثقافى المصرى بنواكشوط للأهرام: «كلف عبدالناصر وفدا برئاسة النبوى المهندس وزير الصحة بزيارة موريتانيا، التى أرسلت وزير الصحة «بوبكر ولد ألفا» للقاهرة، واستقبله عبد الناصر ودعاه لزيارة المشروعات المصرية».
يكشف «ولد داده» ظروف ارتباطه بمصر عبدالناصر، قائلا فى مذكراته المنشورة على «موقع» نوافذ - إلكترونى - 27 يناير 2019: «فى قمة إنشاء منظمة الوحدة الإفريقة بأديس أبابا 25 مايو 1963 تعرفت على الرئيس عبدالناصر.. كانت مقابلتى الأولى معه لا تنسى».. يتذكر: «منذ وصول عبدالناصر إلى الحكم، كنت طالبا فى فرنسا ومعجبا به بلا حدود.. كنت ناصريا تماما، ومع ذلك لم أتمكن من الاستماع إلى إذاعة صوت العرب التى تثير حماس الجماهير العربية، ولم أكن أقرأ جريدة الأهرام لأنها لا تصلنى، أما «البكباشى» كما كانوا يدعونه، وهى عبارة تطفح بالاحتقار والكراهية كثيرا ما كانت تجرى على ألسنة مقدمى النشرات، أو تجرى بها أقلام الكتاب فى الصحافة الغربية، فكل ما أعرفه عنه مستمد من وسائل الإعلام الفرنسية».
يضيف: «كانت لى نقاشات ساخنة حول هذا البكباشى مع فرنسيين أصدقاء دراسة أو فى كلية الحقوق أو فى مدرسة اللغات الشرقية، أو فى الحى اللاتينى أو الجامعى بباريس، أو فى أماكن أخرى يرتادها الطلبة..ومن أناقشهم كثيرا ما يكونون من أنصار الصهاينة المتعصبين، أو ممن يحملون نظرة استعمارية، أو فئات بورجوازية ذات نظرة قاصرة، بل إن طلبة يساريين كانوا معادين له فى تلك الأجواء المتأثرة بما قام به خلال 1954.. كنت كلما شعرت بمزيد من السخط عليه ممن أتحدث إليهم زادنى ذلك إعجابا به».
يؤكد: «كان عبدالناصر بالنسبة لى البطل القومى الذى يعمل من أجل أن يعيد للعرب والأفارقة كرامتهم وشرفهم بعدما أهانهم الأوروبيون زمنا طويل، فكانت مقابلته وجها لوجه والحديث معه على قدم المساواة يثيران لدى مشاعر تستعصى على الوصف.. كان لقاؤنا الأول فى ردهة كبيرة من ردهات «أفريكا هال» حيث أقام الوفد المصرى شبه صالون.. انتظرنى هناك، وعندما رآنى قادما تقدم نحوى وعانقنى بحرارة، وأجلسنى ثم جلس قبالتى.. كان بسيطا هادئا، بشوشا.. كنت وحدى بينما كان محاطا بثلاثة من معاونيه منهم محمد فائق، مستشاره للشؤون الأفريقية، ومجموعة حراس تطوف حولنا».
يتذكر: «بعد انتهاء عبارات التحية طلب أن أحدثه عن الخلاف المغربى الموريتانى، وقال: سأقول لك وجهة نظرى عندما أسمع وجهة النظر الموريتانية، مبينا أنه يعرف الرواية المغربية.. تحدثت إليه خلال ساعة تقريبا، وعندما انتهيت طرح أسئلة حول نقاط وردت فى عرضى، ثم أخذ الحديث بادئا بعبارات مجاملة ولباقة لى. وهنأنى على رفض موريتانيا إقامة أية علاقة مع إسرائيل، مع أن دول أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء تقيم علاقات متنوعة معها».
يكشف: «أعترف صراحة أن الملك محمد الخامس «سلطان المغرب» حمله على الاقتناع بأن موريتانيا كانت إحدى محافظات المغرب، واقتطعها الاستعمار الفرنسى غداء استقلال المغرب، وأضاف كما لو كان يريد تبريرا لتصديقه ما سمع أن وجود موريتانيين بينهم أمير، وجمع من الوجهاء أكدوا له ما قاله ملك المغرب. وأردف قائلا: الآن على أن أعود إلى الصواب، بعد أن عرفت أننى كنت على خطأ وأعترف باستقلال بلدكم».
يضيف: «فى 16 يوليو 1964، قمت بسفر ملىء بالانفعالات القوية، استقبلنى على أثره فى القاهرة».. يعترف: «ها أنا فى قاهرة جمال عبدالناصر لأول مرة، والقلب مفعم نضالا ووطنية، ملىء بمعاداة الاستعمار والإمبريالية التى تحاول طحن العرب والأفارقة.. ها أنا ضيفا عليه فى نفس الظروف، وبنفس الرتبة مع باقى الرؤساء الأفارقة، إنها لحظات لا تنسى أبدا..واستمرت لقاءاتى معه مرة فى السنة على الأقل».
فى هذا السياق استجاب عبدالناصر لاستغاثة «التدخل لحماية الهوية العربية لموريتانيا»، فأنشأ المركز الثقافى المصرى في «نواكشوط»، ويؤكد خالد غريب، افتتحه «ولد داده» يوم 6 فبراير، مثل هذا اليوم 1964، ويكشف: «مكتبته أكبر مكتبة فى موريتانيا، وتضم أكثر من 20 ألف كتاب».. يتذكر: «فى الذكرى الأولى لإنشاء المركز ألقى الشاعر الموريتانى الكبير أحمد ولد عبد القادر قصيدة «شعاع الشرق»، مخلدا قيام المركز، ولا تزال من أشهر القصائد ويؤكد: «اهتم المركز بمنح الطلاب الموريتانيين درجة البكالوريا معادلة للدرجة المصرية، واستقبلت مصر سنويا بعثة تعليمية موريتانية، كان فى أولها الشاعر الكبير «شغالى أحمد محمود»، الذى كتب قصيدة محبة لمصر قرأها عبدالناصر، ودرس عامين فى كلية التربية بجامعة عين شمس، وظل المركز يدرب أبناء موريتانيا حتى إنه فى الثمانينيات تشكلت حكومة كل وزرائها خريجو مصر، ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979 أغلق المركز أبوابه، ثم أعيد افتتاحه فى التسعينيات».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة