حين أطل رئيس جنوب أفريقيا «جاكوب زوما» على شاشة تليفزيون بلاده معلنا وفاة المناضل والزعيم التاريخى نيلسون مانديلا، قال: «رحل حبيبنا نيلسون مانديلا الرئيس المؤسس لبلدنا الديمقراطى.. فاضت روحه إلى بارئها بسلام فى منزله».
كان ذلك يوم 5 ديسمبر، مثل هذا اليوم، عام 2013، وكان وصف «زوما» للفقيد ملخصا موجزا لهذا «الحبيب» لأمته، وهذا «المؤسس لبلده الديمقراطى»، وهذا الرجل الذى عاش 95 عاما، قضى منها 27 عاما متصلة وراء قضبان السجن ثمنا لنضاله ضد سياسة التمييز العنصرى «الأبارتايد» التى تأسست منذ بداية القرن العشرين ضد أصحاب البشرة السمراء وهم الأغلبية، وحين خرج من السجن يوم 11 فبراير 1990، وقف يخاطب الجموع المحتفية قائلا: «لا أقف بينكم كنبى، ولكن كخادم متواضع أضع السنوات الباقية من حياتى بين أيديكم»، حسبما يذكر فى مذكراته «مسيرة طويلة نحو الحرية» الصادر عن «دار الهلال، القاهرة» ترجمة، الدكتورة فاطمة نصر.
يذكر «مانديلا» أنه كان يتحدث فى هذا اليوم من القلب، وأراد أن ينزل بالناس من مستوى رفعهم له إلى مرتبة الأنبياء، فقال: «أردت إبلاغ الناس أننى لست مسيحا، أصبح قائدا بسبب الظروف غير العادية» ولكنى رجل عادى، ويذكر أنه سئل عن مخاوف البيض، وكان يعلم أن الناس يتوقعون أن يكون غاضبا من البيض الذين سجنوه وسلبوه حريته 27 عاما، لكنه يكشف فى مذكراته: «سنوات سجنى خففت مدى غضبى على البيض، رغم أن كراهيتى للنظام تنامت، وكنت أود لجنوب أفريقيا أن ترى أنى أحب حتى أعدائى رغم كراهيتى للنظام، وأردت أيضا أن يفهم الصحفيون أهمية البيض فى أى نظام جديد، فلم نكن نود تدمير البلاد قبل أن نحررها».
بهذه الروح التى خرج بها «مانديلا» من سجنه، بدأ مع رفاقه فى حزب المؤتمر الذى تحمل عبء قيادة النضال ضد سياسة التمييز العنصرى فى إرساء أسس جديدة لمستقبل بلاده، فأنجز دستورا جديدا، وعبر انتخابات وطنية لا عنصرية، تقوم على أساس صوت لكل فرد، فاز حزب المؤتمر بالأغلبية النيابية، وفاز هو برئاسة جنوب أفريقيا فى أبريل 1994، واستمر لدورة واحدة فقط انتهت عام 1999، وقبلها وفى عام 1997 أعلن انسحابه من رئاسة حزب المؤتمر.
وعاش «مانديلا» حياته بعد تقاعده كما يحب أن يعيشها، أحب من جديد وتزوج وهو فى الثمانين من عمره من أرملة رئيس موزمبيق الراحل، وكتب مذكراته منذ طفولته ومراحل نضاله من أجل الحرية، ويشير فيها إلى زيارته لمصر عام 1961 وقت أن كانت القاهرة عاصمة النضال الأفريقى.. ويقول: «كانت مصر قد تملكت مخيلتى وأنا طالب كمهد للحضارة الأفريقية، وكنز لجمال الفن والتصميم.. وكنت دائما أرغب فى زيارة الأهرام وأبوالهول وعبور نهر النيل أعظم أنهار أفريقيا، وقضيت يومى الأول فى المتحف المصرى أفحص القطع الفنية، وأدون الملاحظات وأجمع المعلومات عن نمط الرجال الذين أسسوا حضارة وادى النيل القديمة، واكتشفت فى صباح واحد أن المصريين كانوا يبدعون أعمالا فنية ومعمارية عظيمة بينما كان الغربيون فى الكهوف».. يضيف: «كانت مصر نموذجا مهما لنا فقد كان أمامنا على الطبيعة برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى أطلقه جمال عبدالناصر».
يعبر فى مذكراته عن حالة السمو التى اكتسبها من تجربة الحياة والسجن الذى توارى وراء قضبانه سنوات طويلة، قائلا: «كان خلال تلك السنوات الطويلة الوحيدة أن تحول فهمى لحرية ناسى إلى فهم لحرية كل الناس بيضا وسودا، فقد كنت أعلم أنه لا بد من تحرير الظالم من الكراهية والتحيز وضيق الأفق، وحينما خرجت من السجن كانت مهمتى هى تحرير الظالم والمظلوم، وقد يقول البعض إنه قد تم إنجاز ذلك، ولكنى أعلم أن هذا غير صحيح، فقد خطونا الخطوة الأولى فقط على طريق أطول وأصعب، فلأن تكون حرا لا يعنى أن تلقى بقيدك، ولكن أيضا أن تعيش بطريقة تحترم وتعلى من الآخرين، ولقد سرت ذلك الطريق الطويل نحو الحرية، وحاولت ألا أتعثر، ولكننى اتخذت خطوات خاطئة على الطريق، وقد اكتشفت السر أنه بعد أن يكمل الإنسان تسلق تل يكتشف أن هناك تلالا أخرى كثيرة عليه تسلقها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة