ذهب الفنان محمد عبدالوهاب إلى الزقازيق ليغنى فى إحدى الحفلات حوالى عام 1931 أو 1932، ولم يكن يدرى أنها المرة التى ستقوده إلى التمثيل السينمائى، وتنكسر قناعة حملها رغم تربعه على عرش الغناء العربى، ويعترف بها فى كتاب «محمد عبدالوهاب، سيرة ذاتية»، بقلم لطفى رضوان، قائلا: «بينى وبين التمثيل ما صنع الحداد، ولا أتصور أن أظهر على الشاشة مثل بقية عباد الله الممثلين».
ويكشف عبدالوهاب أنه كان يتخذ من منزل صديقه الكاتب والسياسى فكرى أباظة لوكاندته الخاصة كلما سافر إلى الزقازيق.. ويعترف: «كان كرمه الأباظى المشهور لا يسمح لى بأن أزور الزقازيق دون أن أكون ضيفا على بيته العامر، وتدعونى الصراحة إلى الاعتراف بأننى كنت أذهب إلى الزقازيق قبل الحفلة بيوم، حتى أجد وقتا يكفى لاستيعاب المائدة الأباظية، فضلا عن الاستمتاع بنزهة ريفية يصفو بعدها البال ويروق الحال».
ويتذكر أنه فى يومه قبل الحفلة بمنزل فكرى أباظة، إذا بصديقه المصور السينمائى حسن مراد يفد حاملا آلته السينماتوغرافية ومعه المخرج محمد كريم، موفدين إلى الزقازيق من شركة «مصر للتمثيل والسينما» التى أنشأها طلعت حرب باشا لالتقاط بعض الأفلام الثقافية عن الريف، وكانت هذه هى المرة الأولى التى يلتقى فيها عبدالوهاب وكريم.
بعد تعارفهما تجاذبا أطراف الحديث عن صناعة السينما.. يذكر عبدالوهاب: «فجأة سألنى كريم، ليه يا أستاذ ما تعملش فيلم سينمائى؟..يصف أثر السؤال عليه: «رأيت نفسى أحملق فى محمد كريم فى ذهول ودهشة لهذا السؤال الغريب، وربما كانت دهشتى أقل لو أنه سألنى مثلا: لماذا لا أجعل نفسى رئيسا للولايات المتحدة، أو لماذا لا أحترف المصارعة، ولكن لماذا لا أنتج وأمثل فيلما سينمائيا فهذا ما لم يكن يخطر لى على بال»، وقلت له: «أنا.. أعمل فيلم؟».
عدد كريم لعبدالوهاب مزايا ظهوره على الشاشة، حيث يتاح لعدد كبير من الناس فى شتى الأقطار أن يروه ويسمعوه فى وقت واحد، وضمان الخلود لموسيقاه وأغانيه، ولم يقتنع عبدالوهاب فى البداية، لكن الفكرة بدأت تقترب منه.. يذكر: «ما أن جاء عام 1933، حتى تربعت فى مخى الفكرة، واختمرت ولم يبق إلا تنفيذها، واتصلت بالأستاذ محمد كريم وأبلغته قبولى لاقتراحه، واستعدادى لإنتاج وتمثيل فيلم غنائى، يكون للموسيقى والغناء فيه المقام الأول، واخترنا قصة «الوردة البيضاء»، وتم إعداد كل شىء للعمل، وشاركنى فى بطولة الفيلم سميرة خلوصى».
وكان أهم ما شغل عبدالوهاب فى هذا الوقت هو نوع الألحان والأغانى التى تلائم السينما، ويذكر: «كنت أغنى على التخت فى الحفلات والأفراح، وكان لهذا الغناء أسلوب خاص يقوم على التطريب والمط والإعادة، وفكرت كثيرا وانتهيت إلى أن الغناء فى السينما يجب أن يكون كمناظر السينما نفسها، يقوم على التركيز والسرعة وإعطاء الجو الملائم مباشرة دون تمهيد أو لف ودوران، وهكذا لحنت فى الفيلم أغانى «يا وردة الحب الصافى» و«يا لوعتى يا شقاى» و«نادانى قلبى إليك» و«ضحيت غرامى»، وأردت أن يتضمن الفيلم لحنا من ألحان التخت، فصنعت لحن أغنية «يا للى شجاك الأنين» كلون دائم للجو العام فى القصة، إذ كان البطل فى الرواية يظهر بعد أن احترف الغناء مع أفراد تخته، وهو يعمل بروفة فى منزله، وبعد انتهاء الفيلم أضفت إليه أغنية «جفنه علم الغزل».
وأحدث الفيلم ضجة كبيرة منذ عرضه الأول.. ويذكر الكاتب الصحفى أحمد السماحى على موقع «شهريار الإلكترونى» من مذكرات محمد كريم: «كانت حفلة العرض الأولى فى العاشرة والنصف صباح 4 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1933.. قبل الحفلة الأولى بساعة كنت فى السينما، كنت أخشى الفشل وداخلنى وقتها شعور غريب، لكن بعد انتهاء العرض وجدت الجمهور يصفق دقائق طويلة، ومثل كل شىء جديد يصادف نجاحا كان اسم الفيلم من عوامل الرواج التجارى، إذ أنتجت مصانع النسيج «حرير الوردة البيضاء»، وفتح فندق باسم الفيلم، وحملت كولونيا اسم الفيلم، هذا غير محلات البقالة والمكوجى بل ظهرت لافتة حانوتى «الوردة البيضاء».
ويذكر السماحى أنه بعد العرض الأول تلقى «عبدالوهاب» تهنئة من كبار رجال الدولة المصرية، فضلا عن الأدباء والمشاهير، وشاهدته أم المصريين «صفية زغلول»، وأرسلت باقة ورد كبيرة لمنزل عبدالوهاب، واعتبره الزعيم مصطفى النحاس: «مشروع وطنى كبير»، وكتب الدكتور طه حسين: «تهنئة أريد أن أهديها خالصة صادقة إلى «عبدالوهاب» بعد أن شاهدت فيلمه، وبعد أن شاهدت رضا الناس عنه وإعجابهم به، ولست أدرى أهناء بما وفق إليه من الإجادة والإتقان؟ أم بما وفق إليه من رضا الناس وإعجابهم؟ أم هناء بالأمرين جميعا؟ فكلاهما خليق أن يهنأ به، وعبدالوهاب خليق أن يظفر منها بأعظم حظ ممكن».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة