تُصور لوحة "غروب على النيل في الأقصر" للفنان محمود سعيد (1897 - 1964) من رواد الفن المصري الحديث، امرأة تقف على شاطيء النيل، خلف مراكب شراعية صغيرة تشق طريقها في المياه الهادئة وقت الغروب الذي ينعكس ضوئه على الوجوه والمراكب والسماء والسحب، كما لو أن هذا الضوء كاشف لحال اللوحة وتفاصيلها التي يمتزج فيها الأزرق والأصفر والأبيض، باعث للتماهي مع الطبيعة والحضور الحسي والمعنوي للأشخاص، دال على هذه المرأة التي تحمل جرة على رأسها وتنظر إلى الجهة الأخرى، حيث يبرز الجبل ممتداً بطول الشاطيء؛ لكنها لا تنظر إلى الجبل ولا إلى المسار الذي تتجه إليه المراكب، وإنما إلى أفق بعيد لا يراه أحد غيرها، عالم أخر وراء النيل، وراء الجبل واليابسة مأهول بالخيال والتأويل في اللوحة التي بيعت بنحو مليون دولار في مزاد دار كريستيز دبي في العام 2010.
"غروب على النيل في الأقصر"، لوحة وفية لجغرافيا المكان وناسه، لحالته الخاصة بين جبل مسكون بالأسرار ونهر هو مخلوق من رع (إله الشمس)، ماؤه يسقط من السماء، يأتى بالقوت ويخلق كل شيء طيب، كما جاء وصفه فى نص مديح "بردية تورين" التى تعود إلى عصر رمسيس الثاني، إنه بهذا المعنى يختلف عن صورته كما رسمته كاتبة الروائية الانجليزية أجاثا كريستي (1890 - 1976)، كمسرح لجريمة قتل عاطفية في روايتها الشهيرة "جريمة فى وادى النيل" التي كتبتها في العام 1931 حين زارت الأقصر، أما المرأة في لوحة محمود سعيد تطيل التأمل وتصغى إلى ما بها من حنين مكتوم، لعلها أيضاً تحاول أن تكتشف طريقة لملء الفراغ وسبيلاً للعبور نحو الفضاء الغامض بثبات مثير.
لم أعرف أنني سأصادف هذا الثبات كامرأة غريبة، متعبة بهمومها الوجودية، حين عبرت من مكاني على الضفة الشرقية للأقصر قبل اجتيازي إلى البر الغربي، ولقائي بامرأة هي نموذج دامغ للمرأة الجنوبية القوية، المهيمنة والمانحة في ذات الوقت مساحة كبيرة من الحرية لأبنائها الرجال الكبار، رجال كبار لهم هيبة وإطلالة مهيبة تتلاشى على أعتاب توقير الأم وإجلالها، فالأم مقدسة في الحضارة المصرية القديمة، إنها مركز العائلة عند الفراعة الذين لقبوها بـ "نبت بر" أي ربة البيت، الواهبة للحياة؛ واعتبروها كما نهر النيل الذي يغدق عليهم بعطاياه، لم يخطر ببالي وأنا لازلت على البر الشرقي أنني سأقابل امرأة بهذا العنفوان في الضفة الأخرى من بلاد طيبة، بلاد الشمس، مركز عبادة رع، مدينة النور، مدينة المائة باب، مدينة الصولجان، تلك التي اعتدت أن أزورها في كل مرة كسائحة تطوف المعابد والمزارات السياحية، تتلمسها من قشرتها الخارجية، تتطلع إليها بولع وانبهار كمتحف مفتوح، تسكن في البر الشرقي الذي اعتبره المصريون القدماء دار الحياة؛ بينما اتخذوا البر الغربي داراً للممات، نعم كنت كالأجداد القدماء فضل الحياة في الشرق وأتجول بين معبديه: الأقصر الذي بناه رمسيس الثاني، الكرنك بما يحمله من إنجازات حتشبسوت وتحتمس الثالث ورمسيس الثاني وغيرهم، ثم تتكرر جولاتي المكوكية إلى الغرب مستقر المقابر وأودية الملوك والملكات والأديرة.
أكاد أجزم أن سيدة البر الغربي ذات الحظوة بين أبنائها، التي التقيتها في بيتها بمنطقة البعيرات، هي امتداد للمرأة الفرعونية القديمة؛ مؤكد أنها استخدمت التمائم والتعاويذ مع أطفالها لحمايتهم من الحسد والشرور والأمراض، ولما كبروا؛ مجدوها بما يليق بتعبها وظلوا حولها كأطفال خجولين، تأملت وجه هذه السيدة بينما هي تتوسطنا، إذ طوقناها في نصف دائرة، بقدر ما ظهرت ملامحها حانية؛ لكنها لم تكن أبداً بسيطة، وإنما جنوبية عنيدة، تغزل من خيوط المحال، أثواباً من الممكن، بدت أشبه بالفنانة زوزو حمدي الحكيم في دور الأم الصعيدية الصارمة، المستحوذة في فيلم "المومياء" (1969) إخراج شادي عبد السلام، الأم قوية الشكيمة بمعالمها الواضحة، المحفورة كتفاصيل لوحة عتيقة لم تفقد ألوانها، شيء ما فيها يؤكد أن الحياة هنا حقيقية في حضن التاريخ، لا يوجد مجازًا في هذا العالم المشبع بالغرابة والفانتازيا المفرطة والحيرة، كما في أسطورة حتشبسوت، امرأة أخرى قوية؛ ملكة من طراز فريد، حفيدة أحمس طارد الهكسوس، المرأة التي ارتدت ملابس الرجال وأصبحت الحاكم الخامس في ترتيب أسرتها، في وسع نساء البر الغربي أن يحملن هذا التشابه بشكل أو أخر مع حتشبسوت، وفي مقدرة حتشبسوت أن تفلت من الزمان والمكان، أن تصير لغزاً مثيراً تلهث وراءه أجيال، وحدها الملكة تعرف كيف تصنع الإيقاع، تعود أو تصبح مستحيلاً يتجسد في أفق بعيد أمام امرأة تحمل جرة وتقف على شاطيء النهر.
مرة واحدة منذ عدة سنوات مكثت في البر الغربي أياماً في فندق هابو الشهير، مع فريق المخرج أحمد رشوان لتصوير مشاهد من فيلمه الوثائقي في قرية القرنة عن المعماري حسن فتحي، ومع أن هذه الزيارة أثرت كثيراً في مساري، لكني كنت مجرد عابر سبيل مر في جغرافيا المكان من أجل العمل، أو عائد من رحلة الأطلال والأثار يجلس في المقهى المواجه لتمثالي ممنون يسمع حوار الطبيعة الصامت، تعاملت مع الزمن بشكل بانورامي، لا أرى إلا السطح، أو ما خضعت له من أوهام حملتها على كتفي كي أزن صبري وقوتي، أما في هذه المرة حين نزلت في فندق الفراعنة، أنشيء في العام 1979، ثان فندق في البر الغربي على الطراز الحديث بعد فندق المرسم الشهير، في حضن جبل القرنة ووادي الملكات، أدركت المغزى من مقولة الكاتب جمال الغيطاني:"لولا هموم الرزق لأقمت في البر الغربي من مصر".
في الخلاء وقفت أحدق في أثر العابرين كأنني أحاول أن أتدبر أمري أو أصغى إلى ريح تتحرك بين الأطلال، وربما تكون قد مست أقاصي القلب عند نقطة الأمنيات بأن كل شيء ممكناً وسوف يبدأ من جديد، أمام قرية قرنة مرعي جنوب غرب الرامسيوم وخلف المعبد الجنائزي لأمنحتب الثالث، تل صغير مفتوح على التاريخ والأساطير وظلال الأجداد التي انطوت على الأحفاد في براري شاسعة يركض فيها النسيان، تحجرت على حجر عبأه الغبار في أفق محمل بالمتاعب، أغنى جبل أثري في العالم، مئات المقابر الفرعونية، أكثر من عشر معابد، وحكايات تهجير سكانه إلى قرية القرنة الجديدة من أجل الحفر والتنقيب عن خبيئات الأجداد المجهولة في باطن الجبل، هذا المكان تأكيد للمد والجزر بين الحجر والبشر، مشيت فيه على غير هدى، فاصطدمت قدمي بكومة حصى صغير منثور من تراب الأجداد، على كتف الهضبة أحجار؛ يفضي المدخل إلى الوادي كأنه يخبرنا أنه كان هنا بشر، ولازال يوجد بشر يأتون ويعودون، مشيت مجدداً في شبه اغماءة لا أصحو منها إلا بضربة على الرأس؛ عندما أسمع حكاية المكان مجدداً من نحات تلقائي وقف على قارعة الطريق، يبيع تماثيله الصغيرة التي نحتها لوجوه ملوك الفراعنة، ومن حوار عابر مع فتاتين من بنات القرنة تعلمتا في الجامعة الأمريكية، نموذج لجيل نسائي مختلف يسعى لفهم مختلف لموروثاته، وتكريث مفاهيم جديدة، وإن اصطبغ حضورهما العصري بلمحات بارزة من عنفوان حتشبسوت ومن عناد جدتهما التي تستنكر أن يتزوج خالهما من امرأة أجنبية، خوفاً أن تبعده عن مجتمعه وتنسيه تقاليده.
أصغى إلى الفتاتين باهتمام يليق بطموحهما اللانهائي، لا يقطع هذا الاصغاء سوى طفلة صغيرة في الخامسة من عمرها تجري خلفي، تشد طرف ثيابي ثم تسألني بانجليزية واضحة: “Hi, How are you?”، كمثال لخصوصية المكان الموغل في محليته والمشرع على الأخر في ذات الوقت، وأوروبية ستينية تقود دراجتها كامرأة برية لا تخشى المنحنيات، مثال أخر لأجانب جاءوا إلى المدينة للسياحة أو العمل في بعثات الحفر والتنقيب؛ وبقوا فيها حباً وطواعية، فيما يمر فوق رؤسنا منطاد كبير، بالون ملون في سماء فسيحة يلتحف بها غرب الأقصر، أرض تأثرت بالتحولات الاجتماعية والسياسية، لكنها لازالت تفيض على العابرين بحكايا الشغف واسئلة المصير.
عدد الردود 0
بواسطة:
د / جمال عبداللطيف
مقال عظيم
شكرا لك على الكتابة الصحفية الرائعة ، لقد خلطت الواقع بالخيال الرومانسي الشعري. لقد كنت في الضفة الغربية للأقصر ، وتصورت ما كنت تقوله ، هذه الأرض الجميلة مع سكانها النقيين والأصليين. أحييكم على هذا العمل الأدبي الرائع ، وأنا فخور بأن لدينا صحفيين عظماء مثلك.