تحافظ الدنمارك على بعض التقاليد والعادات المجتمعية الخاصة التى تميزها عن غيرها من الشعوب، حيث يتم اختيار كلمة لتصف الحالة العامة للحياة فى الدولة الاسكندنافية على مدار العام، وفى السنوات السابقة، عبرّت الكلمات التى تم اختيارها، عن المزاج العام الذى ساد فى الشهور التى سبقت انتقاءها، والذى كان قاتما فى بعض الأحيان، ففى العام الماضى، اختيرت مفردة "كليماتوزيه" وتعنى "أحمق المناخ"، وفى عام 2018، تم اختيار كلمة "فيفاسك" أو "غسل الأموال".
أما العام الجارى، فقد فرضت كلمة "سامفونسين" نفسها مبكرًا للمنافسة على لقب "مفردة العام" فى الدنمارك، بحيث تكون من بين الخيارات التى سيستقر عليها المجلس الدنماركى للغة، لاختيار كلمة العام 2020، وبحسب تعريف مجلس اللغة فى الدنمارك، تعنى "سامفونسين" تغليب مصالح المجتمع على مصلحة الفرد، ومن بين الترجمات أيضًا لها، ما معناه "التحلى بروح تعاون مجتمعى" أو "تبنى عقلية تُعنى بمصالح المجتمع"، وقد أصبحت هذه الكلمة الأكثر رواجا فى المجتمع الدنماركى فى ظل تفشى وباء فيروس كورونا المستجد، فى أغلب دول العالم.
وبالبحث فى قواعد البيانات الخاصة بوسائل الإعلام الدنماركية، وجد مسئولو المجلس الدنماركى للغة، أن عدد مرات استخدامها، قفز من 23 مرة فى فبراير الماضى إلى 2855 فى الشهر التالى مباشرة، وذلك وفقًا لما نشرته شبكة "BBC" الإخبارية.
من جانبها، قالت إيفا سكافت ينسين، الباحثة البارزة فى المجلس: "هناك تقليد راسخ لروح التعاون المجتمعى فى الدنمارك.. فقد تجلى ذلك فى القرن التاسع عشر، فى الطريقة التى كوّن بها الناس فى الريف "التعاونيات" التى ركزت على تحقيق الأهداف المشتركة لهم".
وفى هذا الإطار، كان منتجو الألبان يتعاونون معًا لكى يمولوا بشكل مشترك، معامل الألبان المملوكة لهم، كما شكّل المزارعون وغيرهم من سكان الريف، جمعيات تعاونية استهلاكية، ما أتاح الفرصة لهم للالتفاف على الاحتكار من جانب تجار البقالة، وقد طُبقت هذه الفكرة أيضا، من جانب المنخرطين تحت لواء الحركات العمالية، ما ساعد على تأسيس نقابات قوية".
ومن بين الأمور المرتبطة بهذه الكلمة أيضًا، "المدارس الشعبية"، التى أُنشِئَت فى القرن التاسع عشر، بهدف منح سكان المناطق الريفية الفرصة لتلقى تعليم غير نظامى يؤهلهم لكى يكونوا مواطنين صالحين، ولا تزال هذه المنشآت التعليمية قائمة حتى اليوم.
وترى إيفا سكافت ينسين، أن هذا الارتباط بين المفاهيم المتصلة بمصطلح "سامفونسين"، وأمور مثل "المدارس الشعبية" والتعاونيات فى الريف والحركات العمالية، بما يبرز حقيقة أن بوسع الناس أن يحققوا معًا إنجازات أكبر، من تلك التى يحققها كل منهم بمفرده، هو ما ساعد على أن تصبح تلك المفردة، أكثر الكلمات شيوعًا فى 2020، لاسيما وقد استخدمتها رئيسة وزراء الدنمارك ميته فريدريكسن، فى تصريحاتها بشأن وباء كورونا.
ففى المراحل الأولى لأزمة الوباء، ناشدت فريدريكسن مواطنيها وبشكل مباشر، التحلى بـ"بروح التعاون المجتمعى"، وهى إحدى السمات التى ينطوى عليها هذا المفهوم، وفى مؤتمر صحفى عقدته فى 11 مارس الماضى، خلال تطبيق الدنمارك نظام الإغلاق العام، كإحدى الدول الأوروبية الأولى التى أقْدَمَت على ذلك، قالت رئيسة الوزراء الدنماركية: "علينا الوقوف جنبا إلى جنب.. مع الحفاظ على مسافة التباعد الاجتماعى بيننا.. إننا بحاجة للتحلى بروح التعاون المجتمعى.. ونحتاج للعون.. أود أن أشكر كل من أظهروا حتى الآن، أن الـ"سامفونسين" هو ما يوجد لدينا بالفعل فى الدنمارك".
ولفت تقرير "BBC"، إلى أنه "وقد استجاب الدنماركيون بحماسة لمناشدة رئيسة وزرائهم.. فقد ساعدت الشركات الخاصة، على تخفيف الضغط الذى ترزح تحته الجهات المسئولة عن تقديم خدمات الرعاية الصحية، عبر شراء المعدات الطبية اللازمة لها، من خلال حملة "الدنمارك تساعد نفسها".
بدوره، يقول توماس سيندروفيتس، المدير العام للوكالة الدنماركية للمعدات والمستلزمات الطبية، إن "التفاعل مع هذه الحملة، أظهر ما يتحلى به مواطنو هذا البلد من حسن نية وروح تعاون مجتمعى، بقدر لا يُصدق".
كما شاركت فى جهود التخفيف من تبعات الوباء، الكثير من المنشآت والمزارات وأماكن الجذب الأكثر شعبية فى الدنمارك، فعلى سبيل المثال، شرع المصنع المسؤول عن إنتاج قطع لعبة "الليجو"، لحساب شركة "ليجو جروب" الدنماركية، فى تصنيع كمامات للوجه.
كما تم تحويل مدينة الملاهى المُقامة فى حدائق تيفولى بالعاصمة كوبنهاجن إلى روضة للأطفال بشكل مؤقت، ولم يتخلف عن مسار الدعم هذا، مطعم "ألكيميست" الشهير، الذى حوّل نشاطه من إعداد وجبات منتقاة لا يزيد عددها على الخمسين، إلى طهى المكرونة بكميات تكفى لإطعام القاطنين فى 12 من مراكز إيواء المشردين، موزعة فى مناطق مختلفة من كوبنهاجن.
ولم يقتصر ظهور مفردة "سامفونسين" على النشرات الإخبارية التى بثتها وسائل الإعلام الدنماركية وحدها، بل انتشرت كذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، فى صورة هاشتاج يبرز أنشطة التضامن والتعاطف التى ينخرط فيها الدنماركيون خلال الأزمة.
لكن الأهم من ذلك ربما، أن مواطنى هذا البلد جسدوا معنى هذه الكلمة فى كل يوم، وأظهروا كذلك تحليهم بروح التعاون، من خلال اتباعهم القواعد الرامية للحد من تفشى الفيروس، وفى تصريحاتها لمواطنيها، أكدت رئيسة الوزراء الدنماركية، وجود حاجة لاتباع الإرشادات الحكومية فى هذا الصدد، والشروع فى القيام بذلك فى أسرع وقت ممكن، وقد امتثل الدنماركيون بوجه عام لهذه المناشدات دون كثير جدل.
وحسب تقرير الشبكة الإخبارية، فإنه قد لاحظ الأستاذ المساعد دافيد أولاجنير، والبروفيسور ترينيه إتش مونيسن، وكلاهما من قسم الطب الحيوى بجامعة آرهوس، أن المدارس ودور الحضانة ورعاية الأطفال، خوت على عروشها فى الصباح التالى مباشرة للإعلان عن إجراءات الإغلاق، وقبل أربعة أيام كاملة من موعد بدء تطبيقها.
وكتب الاثنان أن ذلك يُظهر أن "لدى الدنماركيين، شعورا قويا بالمسؤولية الاجتماعية"، كما لاحظ الاثنان أن الثقة تشكل العامل الذى يحكم كل شىء فى الدنمارك، ما يدفع للتساؤل، عما إذا كان ذلك يعنى أن ثقة الدنماركيين فى سلامة قرارات حكومتهم وتصرفات أقرانهم من المواطنين، يشكل مفتاح مفهوم الـ"سامفونسين"، وما ينطوى عليه من تبنٍ لعقلية تُعنى بمصالح المجتمع، وتُغلّبها على مصالح الأفراد.
وفى ورقة علمية نُشِرَت عام 2014، كتب أستاذا العلوم السياسية كيم مانيمار سوناسكو وبيتر ثيستد دينيسن، أن "وجود الثقة فى المجتمع يشجع على التعاون بين أفراده"، ووجد الرجلان أن مستوى هذه الثقة فى الدنمارك، من بين أعلى المعدلات فى العالم بأسره، كما أنه زاد بشكل دراماتيكى على مدار 30 سنة، تحديدا بين عامى 1979 و2009.
وفى هذا الشأن، أوضح سوناسكو ودينيسن، أنه "فى عام 1979، قال 47% من الدنماركيين، إنه يمكن الوثوق فى غالبية الأشخاص ممن حولهم، وزادت هذه النسبة إلى 79% فى عام 2009"، وأرجع الاثنان ذلك جزئيًا إلى تحسن مستوى مؤسسات الدولة، وما صاحب ذلك من تزايد ثقة المواطنين فيها.
وأضاف تقرير "BBC"، "ولعل بوسعنا هنا الإشارة إلى أن الدنمارك تربعت هذا العام، مناصفة مع نيوزيلندا، على رأس الدول الأقل فسادًا فى العالم، وفقا لقائمة تصدرها سنويا منظمة "الشفافية الدولية" غير الحكومية، المعنية بمحاربة الفساد.. لذا يمكن القول إن من شأن وجود حكومة مسئولة فى هذا البلد الإسكندنافى، جعل ساسته ينعمون بقدر مرتفع نسبيا من الثقة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة