تعلمنا فى كلية الإعلام جامعة القاهرة أن نشر وتغطية الجريمة يخضع للعديد من المعايير والقواعد، وهناك اتجاهين أساسيين فى المعالجة، الأول يعتمد على النشر دون قيود أو شروط، انطلاقا من وعى الجمهور وحرية الصحافة، والحق في نشر الأخبار، والثانى يعتمد على النشر بمعايير خاصة تُراعى عادات وتقاليد المجتمع، خاصة الجرائم التى تتعلق بالسلوكيات الشاذة والحالات الفردية، التى لا تمثل ظاهرة.
على مدار الأيام الماضية امتلأت وسائل الإعلام بأخبار وموضوعات عن العديد من الجرائم التى تخص حالات فردية، أغلبها يتعلق إما بالجنس أو القتل، كانت آخرها أسرة القليوبية التى تركت رضيعها حتى الموت جوعا، وتحللت جثته، وهذه الجرائم بقدر ما تخلق حالة من السخط العام، وتعبر عن مأساوية الجريمة، إلا أننا لا يمكن أن نجذم بتعميمها أو اعتبارها ظاهرة متفشية في المجتمع، حتى وإن كانت موجودة.
لا أكتب هذه الكلمات لتكون دعوة إلى حظر النشر أو التوقف عن معالجة أخبار الجريمة، لكنها صرخة لوضع قواعد مهنية وأخلاقية فى النشر، خاصة أن مجتمع الـ 100 مليون مواطن طبيعى جدا أن تكون فيه الكثير من المشكلات والقضايا والجرائم أيضا، فهذه الدولة الكبيرة التى تستقبل حوالى حوالى 5 آلاف مولود يوميا، ويفارق فيها الحياة نحو 1600 شخص كل 24 ساعة، بصورة طبيعية تماما ليست لها علاقة بانتشار أمراض أو أوبئة معينة.
لا يمكن بأى حال ألا نرى من المجتمع سوى جرائمه وسقطاته ومشكلاته، كما أن هناك من يرصدنا من الخارج ويتابع مشكلاتنا وبالطبع لا توجد مرآة تكعس هذه المشكلات سوى الإعلام، لذلك علينا أن ننتبه وندقق قبل أن نكتب أو ننشر أو نذيع.
معضلة كبيرة أن تتحدث عن معايير وأخلاقيات حول أخبار الجريمة في ظل سباق ساخن جدا بين مختلف وسائل الإعلام يعتمد في الأساس على السبق وتقديم المعلومة للقارئ، حتى وإن كانت بلا قيمة أو مخيبة للآمال وتسيئ للمجتمع، إلا أن التنبيه والدعوة للمراجعة والصياغات الموضوعية قد تقودنا إلى نتائج أفضل، حتى وإن كانت على المدى الطويل.
فى السنة الدراسية الثالثة من كلية الإعلام جامعة القاهرة، كان الدكتور وجدى زيد، الأستاذ بقسم اللغة الإنجليزية فى كلية الآداب، يُدرس لنا مادة الأدب الانجليزى وتناول خلالها معنى ومواصفات العمل الفنى، وتحدث بأمثلة ونماذج من الروايات الاغريقية القديمة، مثل الضفادع وأسطورة أوديب، ليصل بنا إلى أرسطو ونظرية " التطهير"، التى مفادها أن العمل الفنى أو الأدبى يكون له تأثير انفعالى على المتلقى، ما بين الخوف والشفقة، وقد اعتبر أرسطو أن التطهير الذى ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ " تطهير" لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج مما يحرره من أهوائه، وبالطبع هذا كلام جيد ومازالت الكثير من الأعمال الفنية حتى الآن تعتمد عليه، إلا أن هذه النظرية كانت قبل أكثر من 300 عام من ميلاد السيد المسيح عليه السلام، بما يدعوننا إلى ضرورة طرحها جانبا ودراسة تفاعل الجمهور مع كل ما تقدمه وسائل الإعلام، فيجب أن نضع فى اعتبارنا أنه كما أن هناك أشخاص يفرغون شحنة العنف لديهم بمشاهدة العنف، إلا أن هناك أيضا من يحاكون ويتقمصون ويمارسون هذا العنف نتيجة مشاهدته، وأكثر هذه الفئة هم الأطفال وصغار السن والشباب، فمازال طفلى " عمر" الصغير الذى لم يتجاوز عامه الخامس يظن أنه "سبايدر مان" بعدما شاهد مجموعة من الأفلام عن هذه الشخصية الخيالية!!
نحن نحتاج إلى مراجعة شاملة لكل ما تقدمه وسائل الإعلام فى الجزء المتعلق بالجريمة والظواهر السلبية التى تحدث فى المجتمع، وعلى كل المؤسسات الأكاديمية والبحثية أن تقدم مالديها من أفكار ودراسات فى هذا الاتجاه، حتى نعطى محتوى يليق بكل فئات القراء، ويحترم خصوصية وضوابط وقيم المجتمع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة