فى مقالة سابقة بينت بعض الفروق بين الملكيّات الخاصة فى ظل الاقتصاد الإسلامى والنظامين الاشتراكى والرأسمالى، وتبين أن نظرة الاقتصاد الإسلامى للملكيّات الفردية أشمل وأكثر قدرة على تحقيق مصالح الناس من النظام الاشتراكى الذى لا يسمح بها إلا فى أضيق الحدود، بينما يوسع نطاق الملكيّات العامة، وكذا تفوق على النظام الرأسمالى الذى أطلق الملكيّات الفرديّة بلا حدود ولا ضوابط، فمع توسع الاقتصاد الإسلامى فى إطلاق الملكيّات الخاصة أيضا إلا أنه وضع لتملكها واستثمارها ضوابط، تجعلها أكثر نفعا لملاكها وللمجتمع على السواء، وأنه عند تعارض مصلحة المالك الشخصيّة مع مصلحة المجتمع، فالأولويّة للمجتمع، فمصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد من غير إيقاع ضرر على الفرد.
وفى هذه السطور أبين فى إيجاز موقف اقتصادنا الإسلامى من الملكيّات العامة وفلسفتها، والفرق بينه وبين الأنظمة الوضعيّة، فالنظام الاشتراكى يتوسع فى إقرار الملكيّات العامة على حساب الملكيّات الفرديّة، والنظام الرأسمالى الذى تنهجه كثير من الدول وفى مقدمتها أمريكا والدول التى تدور فى فلكها؛ تطلق العنان للملكيّات الفرديّة على حساب الملكيّات العامة التى تضيق دائرتها إلى أضيق الحدود، والأسواق التى تخضع لسيطرة الدولة بالكامل فى ظل الاقتصاد الاشتراكى تكاد تكون لا علاقة لها بالدولة من حيث التدخل فى الأسعار أو الحد من تصرفات تجارية معينة فى النظام الرأسمالى، فلكل إنسان الحق فى إدارة أمواله واستثمارها بالطرق التى يراها محققة لمصالحه ومنميّة لثروته سواء أكانت نافعة للآخرين أم لا، ومع أن نظام الاقتصاد الرأسمالى لا يتدخل فى الملكيّات الفردية، ويفسح المجال واسعا للاستفادة من الفروق الفردية والمهارات التجارية، وأنه لا يتدخل فى النظام التجارى، إلا أن النظام الرأسمالى يعيش فى ظله أناس تحت خطوط الفقر كلها، فهو نظام لا أخلاقى لا مكان فيه لضعاف القدرات والملكات التجارية المحدودة، ومن قل حظهم من الملكيّة الخاصة، كما أن الحريّة شبه المطلقة فى المجال التجارى وعدم تدخل الدولة أو رقابتها على الأسواق أفسح المجال للممارسات الاحتكارية بما لها من مساوئ وإخلال بنظام السوق، حيث تتحقق المكاسب لطائفة الأغنياء على حساب طوائف الفقراء، حيث إن جزءا كبيرا من الأنشطة التجارية يعتمد على صالات القمار واللهو وتجارة الخمور والمخدرات والسلاح.. ولذا لم تحقق الأنظمة الرأسماليّة السعادة لكل مواطنيها، حيث سعدت طائفة الأثرياء على حساب الفقراء، وكما لجأ القائمون على النظام الاشتراكى إلى نظام الحوافز لتحفيز الناس على العمل لمحاولة إنقاذ النظام الاشتراكى من الانهيار، ولم تنجح محاولاتهم فى إنقاذ النظام، فإن النظام الرأسمالى اضطرت الدول التى تطبقه إلى الإخلال بنظامه العام وهو عدم التدخل فى الملكيّات الفردية أو النشاط التجارى، إلى التدخل للحد من أضرار النشاط الاحتكارى، كما فرضت ضرائب على أصحاب الثروات، ووضعت بعض الضوابط لبعض الأنشطة التجارية.. تعويضا عن تضييق دائرة الملكيّات العامة التى تديرها الدولة؛ حتى تتمكن الدولة من الوفاء بالتزاماتها الماليّة الضروريّة، ولكن هذه الإجراءات لم ترفع مساوئ هذا النظام وأهمها الطبقيّة فى أسوأ صورها، ففشل فى تحقيق السعادة لكثير من مجتمعاته كالنظام الاشتراكى، الذى حقق الفقر لكل متبعيه، بخلاف نظام الاقتصاد الإسلامى الذى أقر الملكيات الفردية على نطاق واسع، ولكن بضماناتها الكفيلة بإسعاد مجتمعاته لو طبقت تطبيقا صحيحا.
أما نظام فيما يتعلق بالملكيات العامة التى تديرها الدولة لمصلحة رعاياها، فهى فى النظام الاشتراكى الأصل الذى يقوم عليه هذا النظام، فالسيطرة شبه كاملة على الأراضى والموارد والخدمات والأسواق، فى حين تضيق دائرة الملكيات العامة فى النظام الرأسمالى إلى أبعد الحدود لصالح الملكيّات الفرديّة فهى أصل هذا النظام، كما يكاد ينعدم دور الدولة فى التدخل فى النشاط الاستثمارى، أما نظام الاقتصاد الإسلامى فقد وازن بين الملكيّات الفرديّة والملكيّات العامة، حيث أقرهما بنظام معين وضوابط محددة كفيلة بتحقق أكبر قدر من تحقيق مصالح الناس التى هى بغية شريعتنا، حيث أقر مبدأ الملكيّات العامة التى تديرها الدولة أكثر بكثير من النظم الرأسماليّة وأقل بكثير جدا عن النظم الاشتراكيّة، فمنع خضوع ما تمس حاجة العامة إليه من سيطرة الأفراد كالموارد الطبيعية والمساجد والمتنزهات العامة والطرقات، وأرسى رسولنا هذه القاعدة بقوله: «المسلمون شركاء فى الكلأ وفى الماء والنار»، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، فكل ما تمس حاجة الناس إليه كالمعادن والثروات فى باطن الأرض أو البحار، والأراضى غير المملوكة للأشخاص يبقى على الملكيّة العامة ويمنع تمليكه للأفراد، ولا تُعد بعض الضوابط كفرض رسوم على مرور السيارات على الطرق أو دخول المتنزهات العامة برسوم مالية، مخرجا لها عن إطار الملكيّة العامّة، حيث إن هذه الرسوم هى لتحسين الخدمة وليس أجرة استخدام، وفلسفة الملكيّات العامة فى الإسلام هى حماية توفير الاحتياجات الحياتية الأساسيّة للناس وخاصة غير القادرين، حيث تمول موارد هذه الملكيّات الخزانة العامة للدولة، ومنها تنفق الدولة على الخدمات الأساسيّة لكل المواطنين، كالصحة والتعليم والرعاية الاجتماعيّة وتشييد الطرق والمرافق وصيانتها، وجلب الصادرات الضرورية لسد الفجوات بين الإنتاج المحلى والاستهلاك، كما أن الملكيّات العامة تُعد ركيزة وادخارا للأجيال القادمة، حيث تبقى الأصول مملوكة للدولة فى كل عصورها، وهو ما يضمن مصدر دخل وإنفاقا دائما يلبى حاجة الناس، ولو أن الملكيّات كلها كانت خاصة لاستحوذ عليها القادرون وحدهم، ولبقى الغالبيّة يعانون أشد المعاناة، حيث لا مصدر لهم إلا ما يجود به الأغنياء، ولعجزت الدولة عن الإنفاق على الخدمات ودفع أجور موظفيها، كما أن الملكيّات الخاصة مهما بلغت من الكثرة فإنها عاجزة عن تأمين حاجة الأجيال، حيث تتفتت الملكيّات بتقسيمها على الورثة جيلا بعد جيل، فيقل نصيب الفرد منها وهو ما يجعل الكثيرين منهم يحتاجون إلى كفالة الدولة لتأمين حاجاتهم من خلال توفير فرص للعمل، وتيسير الخدمات مجانا أو بأسعار معتدلة، ودفع المعاشات والإعانات.
وهذه الفلسفة لإقرار وإدارة الملكيّات العامّة فى الشريعة الإسلاميّة وضوابط إدارتها، وما سبق بيانه من إقرار الملكيّات الخاصة بضوابطها النافعة للملاك وللمجتمع، وذلك باستثمارها من قبل المالكين فيما ينفع الناس ويعود عليهم بتنمية ثرواتهم، ويمكن أصحاب الهمم والمواهب من الاستفادة بجهودهم وقدراتهم، مع رعاية غير القادرين فى ظل الملكيّات العامة والفرديّة على السواء، تجعل نظام الاقتصاد الإسلامى متفردا فى تحقيق الهدف المراد من الثروات وهو تحقيق التوازن وقضاء حاجات الناس، وضمان الحد المعقول لحياة كريمة لكل الناس، والخلل الواقع فى المجتمعات المسلمة يرجع إلى عدم التطبيق الأمثل لنظام الاقتصاد الإسلامى، والتقلب بين الرأسماليّة والاشتراكيّة، فبعض دول عالمنا الإسلامى تطبق النظام الاشتراكى، وبعضها الرأسمالى، وأكثرها يلفق بينهما فيأخذ شيئا من هذا وشيئا من ذلك، ولذلك ينكر بعض الاقتصاديين وجود نظام اقتصادى إسلامى من الأساس وهو محض جهل بشريعتنا، جعلنا فى مؤخرة الأمم مع أننا نملك مقومات تصدرها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة