أكد الدكتور شوقى علام – مفتى الجمهورية- أن الأفكار الدينية المغلوطة تُعَد من أهم الأخطار التى نواجهها على المستوى المحلى والدولي؛ وذلك لأن التطرف الدينى فى العادة لا يقف عند حد الفكر المتشدد المنطوى على نفسه القابع فى زاويته؛ بل سرعان ما يتطور إلى مرحلة فرض الرأى ثم محاولة تطويع المجتمع بأسره قسرًا لهذا الفكر، ولا سبيل له إلا العنف والإرهاب وسفك الدماء.
جاء ذلك فى كلمته الرئيسية التى ألقاها فى مؤتمر "الشباب واستخدام التكنولوجيا فى مكافحة الإرهاب والتطرف- الذى تنظمه وزارة الشباب تحت رعاية جامعة الدول العربية.
وأوضح فى كلمته أن هذه المتوالية التى نُطلق عليها التأسلم السياسى تتشابه وتتكرر، بل تزداد ضراوةً وتأثيرًا وعنفًا بشكل متسارع، ولم يعد المتطرف كما كان سابقًا يطمح إلى حرق نادٍ أو تحطيم ملهًى أو هدم ضريحٍ كما كان يحدث قديمًا؛ بل لم يعد يقف عند حد اغتيال مواطن له رأى ما أو مسئولٍ كبيرٍ.
وأضاف مفتى الجمهورية أن كل هذه الأمور وإن كانت تحدث فإنها تُمثل مجردَ خُطواتٍ أوليةٍ فيما يحلم به هؤلاء المتشددون؛ فقد توسعت طموحات الإرهابيين إلى حد تلقى تمويلات وإقامة جيوش وتسليح كتائبَ واستقطاب الشباب وتدريبهم وإعاشتهم ودمجهم فى كيانات وميليشيات منظمة.
وأشار المفتى إلى أن استعمال الجماعات المتطرفة والإرهابية لكافة وسائل التكنولوجيا الحديثة من تصوير وعرض وغزو لوسائل التواصل الاجتماعى لبث فكرهم المتطرف وجذب المزيد من الشباب المتحمس لدفعهم إلى أتون الحروب والعمليات الانتحارية؛ جعل التطرف والإرهاب يتحول من ظاهرة فردية عشوائية إلى ظاهرة جماعية منظَّمَة تدخل فى تحالفات دولية لا تراعى البعد الأخلاقى ولا الإنسانى فضلًا عن الديني. ولا شك أن هذا التطور قد تسبب فى إيجاد حالة من عدم الاستقرار فى العديد من دول المنطقة العربية.
وقال مفتى الجمهورية: "إنه مما لا ريب فيه أن السبيل إلى مواجهة هذه الأفعال الهدامة التى تُؤثر فى استقرار البشرية وتؤخر التطور الإنسانى إنما هو التعاون والتكاتف بين الجميع، وأن تقوم كل دولة متحضرة وكل جهة حكومية ومؤسسة دينية ومنظمة دولية بدورها فى تشخيص مشكلة التطرف والإرهاب وبناء برامج الوقاية منها ووضع الآليات المناسبة لمواجهتها واتخاذ الإجراءات الحاسمة والرادعة تجاه الدول التى تدعم وتمول وتحمى تنظيمات التطرف والإرهاب".
وعن أهم آليات مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب أكد فضيلة المفتى أن المواجهة الفكرية هى الأهم، حيث ينبغى على المؤسسات المعنية خوض مواجهة جادة مؤسسة على رؤية عميقة ودراسات دقيقة بطريقة علمية حديثة وردود منهجية تتجاوز مرحلة الشجب والخطابة إلى مرحلة الرصد والتحليل ومتابعة تطور هذه الأفكار المتشددة من جذورها التاريخية والاجتماعية حتى وصلت إلى هذا الحد من الشراسة والعنف، ولعل المؤسسات الدينية من أولى المؤسسات التى ينبغى أن تُعنى بهذه المواجهة.
وشدد على أن المواجهة الفكرية الجادة سوف تقضى على ظاهرة التطرف والإرهاب من جذورها، وتدعم جهود الاستقرار الأمنى والسياسى والاقتصادى فى كافة دول المنطقة العربية، وسوف توفر علينا كثيرًا من الخسائر فى الدماء والأرواح التى تزهق فى المواجهات الأمنية أو فى العمليات الإرهابية، إضافة إلى ما سوف تؤدى إليه من دفع عجلة التنمية والإصلاح الاقتصادى الذى يعود بالرخاء على الشعوب والأفراد.
وأكد أن تأثير الإرهاب على التنمية والاستقرار أصبح أمرًا لا جدال فيه، وكل تهاون فى مواجهة هذا الفكر سينعكس سلبًا على حاضرنا ومستقبلنا وعلى شبابنا الذين هم ذخيرة هذا الوطن وأمله فى بناء المستقبل والدولة الحديثة.
وأضاف: "كانت دار الإفتاء المصرية من أهم المؤسسات التى سارعت منذ بداية نشأتها للمواجهة الفكرية للتطرف والإرهاب، وواكبت تزايد وتيرة العنف وارتفاعها فى المنطقة، واستخدمت وسائل التكنولوجيا الحديثة سواء على نطاق الوقاية أو كوسيلة للعلاج".
ولفت إلى أن دار الإفتاء وضعت الشبابَ نصب عينها فى هذه المواجهة واهتمت كبير الاهتمام بتوفير وسائل الوقاية الفكرية لهم؛ باعتبارهم عمود هذه الأمة ومادة بنائها.
وأوضح أن سياسة دار الإفتاء المصرية اعتمدت الأساليب العلمية والمنهجية كوسيلة فاعلة فى هذه المواجهة الفكرية، ومن ضمن أساليبها الرصد والإحصاء العلمى الدقيق الذى يرصد الفتاوى التكفيرية والمتشددة وآثارها فى العالم كله من خلال متابعة ما يدور فى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية وإطلاق المنصات الإلكترونية المتعددة للرد على شبهات هذه الجماعات بأساليب مختلفة، وهكذا كان "مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية" أول مرصد من نوعه يرصد ويحلل ويرد على دعاوى التطرف، وقد تم إنشاؤه عام 2014ـ.
وأشار المفتى إلى أن الدار وضعت استراتيجية وافية لمكافحة التطرف والإرهاب تستهدف تجفيف منابع التطرف ومحاصرته ومنعه من الانتشار من خلال برامج تربوية وتنموية وإجراءات قانونية واجتماعية، ويتم تنفيذ ذلك كله عبر آليات ووسائل متنوعة.
وحول دور الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، قال المفتي: "إن الأمانة تشاركت مع دار الإفتاء المصرية فى أداء هذه المهمة الجليلة؛ فقد أُنشئت الأمانة العامة كمظلة جامعة للمؤسسات الإفتائية فى العالم؛ وجعلت من أهم أهدافها تكتيل هذه المؤسسات لبناء حائط صد ضد هذه الأفكار الهدامة؛ فاعتمدت المبدأ المؤسسى الجماعى وانضوى تحت لوائها أكثر من خمسين عضوًا ومؤسسة عاملة فى مجال الإفتاء، فعقدت مؤتمراتها العالمية على مدار خمسة أعوام، وكان من أهم محاور ونتائج ومشروعات هذه المؤتمرات ما يتصل بمواجهة الأفكار المتطرفة".
وأضاف أن دار الإفتاء والأمانة العامة سعتا بخطة علمية منهجية إلى تفكيك مفاصل الفكر المتشدد من جذوره المرجعية، وأثمرت هذه الجهود عن إصدار موسوعة علمية بعنوان "دليل المسلمين إلى تفنيد أفكار المتطرفين" كأول موسوعة تتناول –وبجرأة- نقد أفكار التكفير التى اعتمدتها معظم هذه التنظيمات.
ولفت إلى أن دار الإفتاء والأمانة العامة قد أدركتا من موقع المسئولية الدينية والوطنية أن خطر الإرهاب لا يقتصر ضرره على الصعيد المحلى، وإنما يمتد تأثيره السلبى إلى استقرار وأمن دول المنطقة بأسرها، وأن هذا الخطر ما هو إلا نتيجة طبيعية للإهمال والاستهانة لسنوات طويلة بمقاومة هذا الفكر، ومن ثَم فقد سعت كل من دار الإفتاء والأمانة العامة إلى إعداد برامج تدريب للعلماء والمفتين والدعاة على مستوى العالم لكى تؤهل هذه الكوادر لمواجهة هذا الفكر، وكان لتخريج هذه الكوادر أثره الفعال فى مواجهة الفكر المتطرف على مستوى العالم.
وأضاف مفتى الجمهورية أن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم لم تقتصر على التدريب المباشر بل خصصت فى خطة برامجها التدريبية عن بُعد عدة برامج خاصة بمواجهة الأفكار المتطرفة وآليات الوقاية منها، وفى هذا السياق وضعت فى خطتها ترتيبات لتنظيم قوافل خارجية لدول العالم تسعى لتفكيك الأفكار المتطرفة ومواجهتها.
وفى مجال الفضاء الإلكترونى أوضح المفتى أن دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة طورت العديد من الصفحات المتخصصة باللغة العربية واللغات الأجنبية لتشخيص ومواجهة التطرف والإرهاب، من أهمها صفحة "داعش تحت المجهر" باللغات المختلفة.
وأما عن الإصدارات العلمية فى هذا الشأن فقد أشار المفتى إلى أنها تنوعت بين كتب وتقارير وأدلة إرشادية وموشن جرافيك؛ ومن أهم الدراسات والموسوعات التى تقدمها الأمانة العامة "الدليل المرجعى لمواجهة التطرف"، و"دراسة الانحرافات الفقهية للمتطرفين"، وكتاب "الإسلام السياسى وإفلاسه" و"معجم مصطلحات التطرف والإرهاب".
وأضاف أن هذه الجهود كللت بإعلان الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم عن "مركز سلام لدراسات التشدد"، وهو مركز بحثى وعلمى لإعداد الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية يرتكز على مناهج وسطية إسلامية ويعالج مشكلات التشدد والتطرف الخاصة بالمسلمين حول العالم، ويقدم توصيات وبرامج عمل لكيفية مواجهة تلك الظاهرة الآخذة فى الزيادة، ومحاربتها والقضاء عليها، آخذًا بعين الاعتبار الخصوصيات المرتبطة بتنوع الحالات وتعددها، واختلاف المناطق والبلدان.
وهكذا توالت جهود دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة فى المواجهة الفكرية لهذه الجماعات إنشاءً للبرامج وتطويرًا للآليات وتأصيلًا للمناهج وتفكيكًا للأفكار لتقوم بدورها الوطنى والدينى فى هذه الفترة العصيبة من تاريخ الأمة.
واختتم مفتى الجمهورية كلمته بقوله: "إن دار الإفتاء المصرية باعتبارها مؤسسة دينية وطنية عريقة، قد ساهمت فى تشكيل الوعى المصرى الوسطى حتى استقر مزيةً لهذا الشعب العظيم؛ لن تكتفى بما قدمته من برامج وآليات لمواجهة هذا الفكر وَفق العمل المؤسسى المنظم الدقيق الذى تبلور فى العديد من الإنجازات الهامة التى تخدم قضايا الإسلام والأمة، بل لن تألو جهدًا فى استخدام التراث الإسلامى العريق والأفكار الإنسانية المتحضرة ووسائل التكنولوجيا المعاصرة، ولن تتوانى عن متابعة هذه الأنشطة الهدامة بهدف محاصرتها والقضاء عليها متعاونة فى ذلك مع كل مخلص لهذا الوطن ولهذه الأمة ولقضايا الإنسانية جمعاء".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة