عزيزى فلان
تحية طيبة وبعد؛
أعتذر عن عدم قدرتى على تسليم مقالى الأسبوعى فى موعده، فقد ارتفعت حرارتى، وانتابتنى حالة هذيان. نعم، أعرف أنك قلت لى يوما إن الكتابة درب من الهذيان. أنت قلت، لكنى لم أقتنع، أو ربما لا أصدق. كيف أكتب بنصف وعى، وربما أقل، لكننى حاولت. نعم، حاولت. كلما أمسكت القلم ارتعش بين أصابعى. ألمح ابتسامتك الساخرة الآن، وصوتك يتسلل إلىّ مستنكرا: "هل ما زلت تكتب بالقلم أيها الأحمق".
نعم يا عزيزى، ما زلت أحتفظ بذلك القدر من الحماقة، ولن أخوض حربا كى أقنعك.
اسمح لى بالعودة إلى أمر اعتذارى عن عدم الكتابة. هل أخبرتك يا عزيزى أننى حاولت؟ نعم، قلت لك منذ قليل، لكن دعنى أخبرك من جديد. لقد جلست طويلا بنصف وعى أمام تلك الصحراء الشاسعة، الراقدة فى صمت على سطح مكتبى المتهالك، لطالما تجاوزت فى حق ذلك المكتب فى زياراتك القليلة إلىّ، لكنه كان رحيما بى ولم يغضب، ولم يحاسبنى قط على حماقات ضيوفى.
باق من الزمن خمس ساعات، لم يكن القلق قد تسلل إلىَّ وقتها. نظرت إلى تلك الصفحة البيضاء بثقة، ولم أُعرها اهتماما.
"اعتدت سكب السواد عليها يوميا عشرات المرات، دون مجهود".. هكذا أُدلّل نفسى دائما. امتهنت الكتابة لسنوات، سوّدت آلاف الصفحات. دنّست بالحبر الأسود أفدنة من المساحات البيضاء. نعم، أستطيع كتابة أى شىء وقتما أريد، ما يزال الوقت مبكّرا.
مرت علىَّ ثلاث ساعات جالسا دون أن أكتب حرفا واحدا، هل تصدق يا عزيزى؟ انتقلت الصحراء البيضاء من أمامى إلى عقلى. هل ارتفعت وقتها درجة حرارتى؟ ربما.
فرّت منى الحروف. نعم، كلها يا عزيزى. لم يرض واحد منها صُحبتى. فاوضتها كثيرا، لكنها تنكّرت لى. لم أخض يوما معركة إلا كانت الحروف سلاحى الوحيد. اليوم تركتنى، وفرّت هاربة.
هل تعرف ماذا قالت لى؟.. اتهمتنى بأننى لوّثت عقولها وكسرت قلوبها، اتهمتنى بأننى لويت عُنق الحقيقة مُستغلا ضعفها. صرخت فى وجهى: "لقد أسأت لنا طويلا، خُضنا معاركك مُرغَمين لا راغبين، لم تكن معارك بل كذبات كبيرة، احترفت الكذب حتى صدّقت كذبتك".
باق من الزمن ساعتان. أشعر بوخز فى قدمى، هل ارتفعت حرارتى من جديد؟ ربما، ما زالت الحروف تُصر على الرحيل، وافقت أن تبقى حتى أنتهى من كتابة اعتذارى إليك عن الكتابة. تلك مهمة تراها شرفا يجب أن تشارك فيه.
من أين أبدأ اعتذارى إليك؟ بالعودة إلى هزائمى القديمة؟ نعم، تلك بداية جيدة، فاعتذارى اليوم هزيمة جديدة تنضم إلى دفترى الأزرق المُترع بالهزائم.
كانت هزيمتى الأولى، معركة غير متكافئة بين الأرض والسماء. ظننت أن الأرض معى تطرق باب السماء؛ كى تعدل عن قرارها، لكنها لم تفعل. ربما حاولت، لا أتذكر. ما أذكره الآن جيدا، أنها خذلتنى يومها، وفتحت فمها، وابتلعت أبى بتحريض من السماء.
مر عام وجاءت الهزيمة الثانية. نعم، هى تلك القصة التى تعرفها. أول حبيبة، وأول قبلة، وثانى هزيمة. أصبحت حبيبة الأمس اليوم أُمًّا لثلاثة أطفال من رجل غيرى. جاء وحملها معه إلى جزيرة وحيدة فى النصف الجنوبى من الكرة الأرضية، يُسمّونها أستراليا، وأسمّيها المنفى.
ما تزال الحروف هنا إلى جوارى، ربما تعاطفت معى بعد هزائمى المتتالية. ارتفعت حرارتى أكثر. فكّرت قبل كتابة الاعتذار - بما تبقى لى من وعى - أن أرسل إليك حوارا بدلا من المقال. نعم، حوار مع أحفاد الحلوانى، الذى فرّقت السُبل بينى وبين البحث عنه. هل تعرف يا عزيزى أننى قرّرت العمل فى بلاط صاحبة الجلالة من أجل ذلك الحوار؟
كنت طفلا تتعلق عيناه بصندوق الدنيا الصغير، الراقد فوق سطح الدولاب الخشبى القديم فى غرفتنا الكبيرة. غرفة واحدة تضم الجميع. تخشى الأم على الصندوق ذى الوجه الزجاجى من عبث أطفالها الصغار. فوضعته بعيدا، فاعتدنا الاحتيال على بُعد المسافات بيننا، بعصا خشبية طويلة نتنقل بمساعدتها بين ثلاث محطات، الأولى والثانية والثالثة. ديكورات أكثر بهجة، ومُذيعات أكثر تأنقا، هكذا كان الحال فى الأولى والثانية، أما الثالثة فكانت أقل حظا، حتى فى ساعات البث، كانت تُشبهنى أنا، أصغر إخوتى، يستطيع الكبار السهر خارج المنزل دون عقاب، بينما أعود أنا مبكرا، كالقناة الثالثة تماما، تطفئ أنوارها قبل الجميع، وترقد فى سُبات عميق تحت برج ماسبيرو العتيق.
نجتمع كل مساء أمام الدولاب الخشبى القديم، نرفع رؤوسنا لأعلى، فتتعلّق عيوننا بالجانب الزجاجى المضىء للصندوق، تنفتح بوابة مصر الذهبية أمام رجاء كورال الموسيقار العظيم بليغ حمدى فى آخر ألحانه لكلمات سيد حجاب، يأتى بعدها صوت على الحجار، متمردا، خارجا من صفوف الكورال، معلنا بيقين، وإيمان انتقل إلى قلبى وعقلى فى كل ليلة استمعت إليه: "اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى، وعشان كده مصر يا ولاد، حلوة الحلوات".
فى البداية سألت أبى مَن الحلوانى؟ لكنه لم يفهم ما أقصد. قال لى يومها إن الحلوانى شخص يبيع البسبوسة والكنافة. كنت أسأل عن الحلوانى الذى يتغنى به الحجار كل مساء!
فكرت كثيرا أين يسكن ذلك الحلوانى؟ هل ما يزال على قيد الحياة؟ ومن أين بدأ البناء؟ رحلة بحث دامت طويلا، ما إن تفتح بوابة مصر أمام نغمات بليغ حمدى، فتُطلق خيال الطفل الصغير، محاولا استكشاف نقطة البداية. هل بدأ حقا من مصر القديمة؟ يجب أن يكون بدأ من هناك، لذلك سُمّيت بالقديمة، لم أكن أعرف من أسماء أحياء القاهرة يومها إلا مصر القديمة التى أسكنها، والحسين الذى أزوره فى إجازة الصيف.
يحضر أبى الجريدة اليومية معه كل مساء. تتربّع الأهرام على حجره، ينكبّ عليها مُنهمكا فى قراءتها، فأُزاحمها فيه محاولا نيل مساحة صغيرة من حِجر أبى. بالكاد أقرأ الكلمات الضخمة بعد معاناة كبيرة، قال أبى إن اسمها "مانشيت". بحثت عن الرجل كثيرا فى تلك الكلمات الضخمة، فربما تلتقى به الجريدة وتسأله كيف بنى مصر؟ ومتى؟ وهل حقا بدأ من مصر القديمة كما أظن؟ ولكنى لم أجده قطّ. كيف لم تُجر الصحافة حوارا معه أو مع أبنائه؟ كيف لا يعرف العامة طريقه؟ اتّهمت الصحافة وقتها بالتقصير فى تتبّع حياة المشاهير، وإهمال من بنى مصر.
قررت يومها أن أكون صحفيا من أجل حوار لن يكون أبدا، فكانت هزيمتى الأبدية!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة