تبدو مسلسلات رمضان هذا العام بمذاق مختلف من حيث الهدف والرسالة، فبعد أن كانت غالبية الأعمال الدرامية في فترات سابقة تتناول قضايا العشوائيات وما يحيط بها من مشكلات اجتماعية شديدة الخطورة تتمثل في العنف والخروج على القانون، فضلا عن فقدان الهوية وضياع الأحلام لدى غالبية شبابنا الحالي، وكذلك أبرز التحديات التي تحطم مستقبلهم، والتي أخطرها على الإطلاق قضية الإدمان كواحدة من معضلات هذا العصر، ولكن ما لبثت بعض الأعمال الدرامية أن غيرت وجهتها وارتدت في وقتنا الراهن ثوبا جديدا ومختلفا، حيث جسدت أمراضا نفسية عديدة، ربما يرى البعض فيها أنها تجسيد للواقع الأليم الذي نعيشه حاليا، بينما رأي البعض الآخر أنها تعد مصدرا للكآبة ليس إلا، ولكني أراها تتميز بطابع الإثارة والتشويق وبيان قدرات الممثلين في تجسيد الشخصيات على نحو يبرز مواهبهم.
على أية حال فقد تصدرت شخصية المريض النفسي أربعة أعمال في قلب الدراما الرمضانية هذا العام هى "علامة استفهام" بطولة محمد رجب، و"قمر هادي بطولة هاني سلامة، و"بركة" بطولة عمر سعد، و"قابيل" بطولة محمد ممدوح، وهو ما يأتي على العكس تماما مما حدث في السنوات السابقة التي كنا نشهد انتاج مسلسل أو اثنين على الأكثر في الموسم الواحد، لكن موسم رمضان 2019 شهد غزارة إنتاج هذه النوعية من "السيكو دراما"، بعدما وجد مؤلفو المسلسلات مادة ملهمة لكتاباتهم من خلال قصص وحكايا المرضى النفسيين الذين يقبعون خلف أسوار مستشفيات الأمراض العقلية، والتي تحوى بين جدرانها حتما عشرات القصص الغارقة في التفاصيل الدرامية المعقدة عن تلك الأمراض، الأمر الذي جعل شخصية المريض النفسي جاذبة في حد ذاتها لكتاب الدراما في عشرات الأفلام والمسلسلات الحالية.
في السطور التالية سوف أركز على أهم أعمال الدراما النفسية أو "السيكو دراما" لهذا العام، وهو مسلسل "علامة استفهام"، بطولة النجم "محمد رجب" العائد بقوة إلى دراما رمضان بعد غياب لأكثر من عشر سنوات بعد آخر مسلسل له "أدهم الشرقاوي 2009"، والحقيقة أنه تبين لي بالفعل ومن خلال المشاهدة المتأنية والمتابعة الدقيقة للأحداث المعقدة، أننا أمام عمل درامى مختلف كليا في خطوطه عن الأعمال الثلاثة الأخرى "قمر هادي - بركة - قابيل"، حيث اعتمد صناعه من "ممثل ومؤلف ومخرج" على تيمة التشويق والإثارة من خلال مجموعة من الألغاز التي تحيط بجرائم القتل والحوادث المتفرقة التي ظلت بصورة محيرة للمشاهدين إلى حد كبير، لكنها في ذات الوقت نجحت فى جذب انتباههم على جناح المتعة لمتابعة الحلقات واحدة تلو الأخرى.
ولعل نجاح "محمد رجب" في إتقان دور الشاب رجل الأعمال والموسيقى الطموح الذي يتحول إلى مريض نفسى "نوح الشواف" ربما كان العامل الأهم في جذب المشاهدين إلى المتابعة عن كثب، وهو الأمر الذي يجعله - بحسن أدائه المتقن - يتربع على قمة "السيكو دراما" لهذا الموسم الرمضاني المشحون بمسلسلات الغضب والعنف والأكشن والكوميدي الهزلي إلى حد البلاهة في كثير منها للأسف، فقد امتلك محمد رجب من بداية المسلسل قدرات فائقة في الأداء مكنته بالضرورة من تقمص شخصية "نوح الشواف"، واستطاع السيطرة عليها داخل وخارج المستشفي في محاولاته الدؤوبة لمحاكاتها على أرض الواقع، و تجسيد ملامح و صفات تلك الشخصية وأبعادها المتباينة، كما تمكن أيضا من الدخول فى إهاب الشخصية، أي أنه دخل تحت جلدها تماما، وظل يحاكيها أو يماثلها تماما، محاولا الوصول للكمال، بمحاكاة طريقة كلامها وطريقة حركاتها وإيماءاتها وسكناتها، أى رودود أفعالها فى لحظات الصمت، وذلك في محاولة حثيثة من جانبه للاتساق بتلك الشخصية الدرامية.
وقد استعمل "رجب" هنا الأدوات الأساسية للممثل من الناحية الأكاديمية، والتي تتمثل فى جهازين أساسين هما: الجهاز الخارجى وهو عبارة عن الجسم والصوت، والجهاز الداخلى ويتمثل فى الأحاسيس والمشاعر والانفعالات، تماما كما بدا لنا في كثير من المشاهد التي تؤكد على جدارة موهبته التمثيلية الفائقة الجودة شريطة أن يتم منحه الفرصة المناسبة، حيث قدم أداءً لافتاً، بتقمصه لشخصية تتأرجح بين الطيبة المخلوطة بنوع من الذكاء الحاد في السعي للانتقام، منذ الحلقة الأولى التي بدأها بمشاهد غامضة داخل منزل مظلم، ليظهر بعدها الدكتور "سامح" الطبيب النفسى الذى يجسده الفنان "هيثم أحمد زكى" فى "المولد"، وبعد ذلك ذهب لإحدى المسارح التى تقدم السحر وخفة اليد ليجد "نوح الشواف" أو "الساحر" بصحبة "رحاب" التي تلعب دورها الفنانة "ميرهان حسين" التى تحمل ثعبانا حول رقبتها، ولكن "نوح" يفاجئ "سامح" بنقل الثعبان على رقبته فى محاولة خنقه، ولكنه استيقظ ليجد أنه مجرد كابوس، ومنذ تلك اللحظة بدا مرتدياً وجهاً بارداً وملامح جدية، تفتقد إلى الابتسامة، وإظهار التناقضات النفسية في بعض المواقف، فبقدر قساوته أحيانا في التعامل مع شقيقه"جاسر"، تظهر رحمته وإنسانيته في تعامله معه في أحايين مختلفة مبرزاً العلاقة الإنسانية الجميلة بينهما.
ربما الأداء الاحترافي من جانب "محمد رجب" بدا لنا من خلال استخدامه تلك اللغة الحية التي تؤثر في الإقناع، ومن ثم كان الإقناع سببا جوهريا من جانبه بحيث ولد لغة المشاعر من مشهد إلى آخر وصولا للفوز بقلوب المشاهدين على اختلاف أعمارهم واتجاهاتهم الفكرية، ما يؤكد أنه ممثل نافذ البصيرة يعرف جيدا كيف يؤثر في قلوب الآخرين، على جناح المصداقية والبساطة التى قدمها ووضعها فى منطقة خاصة به وحده يغرد فيها بمفرده عن بقية السرب الدرامي المعني بـ "السيكودراما" في هذا الموسم، فقد بدا متحررا تماما من أي نوع من الإجهاد العضلي غير الضروري، ومن ثم اعتمد أسلوب التأني في اللفظ في النطق، والتقرب إلى قلوب السامعين من مشاهديه، ضاربا أروع الأمثلة في أن الممثل يقوم على مبدأ المحاكاة أو تمثيل الآخرين، ويبدو ذلك من خلال معايشته للدور اجتماعيا ونفسيا وجسميا وصوتيا أيضا، فضلا عن معايشته للشخصية المراد تأديتها على غرار "نوح الشواف" الذي تماهى معه إلى أقصى حد في انفعالاته وصمته وسكونه المريب أحيانا، وانطلاقه متحررا من كل قيد أوشرط ليعيش الحياة بالطول والعرض، كما أرادها شاب موسيقي غني يتمتع بذكاء حاد، خاصة في أمور البيزنس التي ورثها عن والده.
تصدر مسلسل "علامة استفهام" قائمة الأكثر تداولا على "تويتر"، ونال استحسان المتابعين، منذ بداية عرضه في رمضان، وهذا لم يأتي من فراغ بل جراء جهد بذله كل فريق العمل الذي أجاد غالبيته في الأداء في تواز تام مع "محمد رجب" ، وقد بدا ذلك من بداية أحداث المسلسل، ولعل الغموض الذي شهدته الحلقات الأولى في مسألة انتحار "صابر" الذي قام بدوره "محمد على رزق"، وكذا نشوب مشادات بين "نوح الشواف" وشقيقه "جاسر" داخل الغواصة التى يقيم فيها بروفات فرقتهم الموسيقية، وصلت إلى صفع "نوح" له ليقوم شقيقه بتصويب مسدس فى وجهه، ولكن "نوح" قفز عليه وحاول المتواجدين تهدئة الأمر، وأيضا تعرض الدكتور "سامح" خلال أحداث الحلقات لعدة تهديدات كان أبرزها رسالة داخل سيارته بتهديد قتل والده إن لم يبتعد عن معالجة "نوح الشواف"، كل ذلك بالطبع قد أدى بالضرورة إلى التصيعد من حدة الإثارة وخلق نوع من شغف التعلق بالمشاهدة.
ويحسب حسن الأداء في هذا المسلسل للفنان هيثم أحمد زكي، في دور الدكتور "سامح ربيع" وقد استخدم تكنيك الأداء الهادىء والنعومة بحس رومانسي هذا العام على عكس أدائه الانفعالي الذي اتسم بالعنف والقوة في "كلبش 2" العام الماضي، ما يوضح لنا أن موهبة الممثل لا تكمن في الإحساس، بل في ترجمة العلامات الخارجية للإحساس ترجمة أمينة دقيقة، تماما كما يؤكد "ديدرو"، ويضيف (إن الممثل ليس مرادفا للشخصية، إنه يؤدي دورها ويحسن أداؤه بحيث تظنون إنه الشخصية ذاتها - الايهام من أجلكم أنتم - أما هو فيعلم تماما إنه و الشخصية اثنان لا واحد)، ويعتقد المعلم "ستانسلافسكي" أن هذا النوع هو ما يصح تسميته بـ (الحلو أو الجميل)، إنه يؤثر بشكل مباشر وآني ويملك السطوة الحقيقية المعهودة في فن التمثيل، تماما كما فعل "هيثم" في تجسيده للشخصية.
أما القدير عبد الرحمن أبو زهرة في دور الدكتور "ربيع" فيجيء أداءه مليئ بالأحاسيس والمشاعر الأبوية الخالصة لابنه الكتور "سامح"، وقد صنع قالبا خاصا به في طريقة الالقاء والتكلم دون المبالغة في رفع "تون" الصوت وتعمده خفضه في اللحظات الحساسة، وذلك في تهدج عاطفي غير متكلف، بل يأتي بتنميقات صوتية حماسية بطريقة خاصة جدا تؤكد إن ذلك إنما هو نابع عن الفهم الحقيقي لمهنة التمثيل التي تعتمد على جانبين رئيسيين في إبداع الشخصية، الجانب الذي صاغه المؤلف والجانب الذي أضافه الممثل، ونفس الأمر ينطبق تماما على الفنان الناضج جدا "محمود البزاوي" في تألقه في تجسيد شخصية "فؤاد الشواف" بانسيابية وخبث لذيذ، ولقد سعى في هذا إلى التقمص الكامل باستخدام وسائله الخاصة في مستوى معين بحيث تمكن من خلاله تقديم الحالة التصويرية لتصرفات الشخصية التي يمثلها دون دخول في حالة الايهام.
وعلى درب الأداء الجيد يأتي أيضا الفنان الكبير "عماد رشاد" من خلال دور دكتور "محمود" صاحب ومدير المصحة النفسية، "محمد ناصر" في دور "جاسرالشواف" شقيق "نوح"، والذي يتمتع بصوت جيد في الغناء، وإسلام حافظ في دور "قنديل"، وإدوارد في دور الدكتور"طارق"، ونورهان في دور الدكتورة "همت"، كما تألقت كل من "ميرهان حسين في دور"رحاب"، وجيهان خليل في أداء دور "مروة الشواف" بقدر من الحساسية التي تنم عن اضطراب في الشخصية طوال الوقت، والفضل كله أولا وأخيرا في نجاح هذا العمل يعود للمخرج "سميح النقاش" في إدارته الحازمة لفريق العمل، والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة الباعثة على التشويق والإثارة من خلال زوايا التصوير عن قرب لبيان انفعالات الوجوه، كما أنه منح المشاهد شعورا بالاختناق والضغط العصبي والبرودة من خلال مشاهد غرف المصحة النفسية.
وأخيرا يقول الفنان "محمد رجب" في إحدى تصريحاته الأخيرة، أنه اكتشف مؤخرا أن العدو الحقيقي والمنافس له هو "نفسه"، وذلك بسبب قرار خاطئ كان يسير خلفه الفترة الماضية، وهو قراره بعدم خوض تجارب درامية واكتفاءه بالسينما، والواقع أني لست معه في هذا التصور، وذلك لاعقادي بأن الذي ولد لديه هذا الشعور يأتي نتاج إخفاقات متعددة تعرض لها جراء أمرين لا ثالث لهما، الأمر الأول: هو الاستهداف عن عمد ومع سبق الإصرار والترصد برفع أفلامه من دور العرض بعد أيام قليلة من نزولها، أواستبعادها من الأساس بطريقة لا تنم عن حسن النوايا كما ادعى البعض، بل بقصد تحطيم معنوياته، أما الأمر الثاني والمهم هو توجيه سهام نقد مسمومة من جانب بعض كارهيه من الذين تفننوا في الكيل بمكيالين في تقيم أعماله السينمائية ومحاولات الإصرار من جانبهم بوضعه في خانة "السنيد" وليس البطل، وهو أمر مستهجن، وأظن أن "رجب" قد رد على هؤلاء الموتورين بطريقة عملية من خلال مسلسل "علامة استفهام" في ذهابه إلى آفاق مغايرة في الأداء الاحترافي العذب بسلامة أفعال الشخصية ومنطقها الفني، الأمر الذي كتب له النجاح ويضعه بالطبع في مصاف النجوم الكبار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة