بمجرد أن تخطو على خشبة المسرح الاستعراضى تتحول بخفة ورشاقة إلى فراشة انطلقت لتوها من محبسها، وبدأت بالطيران نحو النور، وهى تتمايل متجاوزة حدود الزمان والمكان فى تيه ودلال ودعة، وتبدو حركاتها وتمايلها كرنين موسيقى يملأ خشبة المسرح بعذب الكلمات والألحان والأداء الغنائى بحس تمثيلى نادر، ولذلك أطلقوا عليها لقب "فراشة المسرح"، وهى كذلك بالفعل، فمؤخرا استمتعت بتألق كارول سماحة مع جمهور حفلها الذى حمل عنوان "الحلم" على "مسرح المنارة"، وذلك من خلال إطلالة رائعة، ووسط حالة خاصة بتقنية "الهولوجرام"، حيث قدمت مجموعة من أعمالها المختلفة، والتى سبق أن قدمتها على مدار مسيرتها الفنية بصحبة أوركسترا "جورج قلته".
على مدار ساعة ونصف الساعة ظلت كارول تجوب المسرح كفراشة تواقة للنور بين قديم أغانيها وجديدها، وفى جو من الألفة والبهجة والرقى وباستخدام تكنولوجيا الإبهار، قدمت لنا حوالى عشرين أغنية تمثل محطات مهمة فى مسيرتها الفنية المفعمة بالطاقة والحيوية، والتى بدأت بـ"اتطلع فيا"، و"يا رب" لمروان خورى، و"هخونك" و"أقول أنساك" لمحمد يحيى، و"فى الوقت الغلط" لوليد سعد وأيمن بهجت قمر، ثم رائعة منصور الرحبانى "بصباح الألف التالت"، و"غالى على" و"حدودى السما" لسليم عساف، و"وحشانى بلادى وعزيزة" لمحمد عبدالوهاب ومحمد جمعة، وغيرها من أغنياتها المحتشدة بالتطور التكنولوجى والتجديد الموسيقى.
فضلا عن تحقيقها "الحلم" فى تلك الليلة بالغناء مع العندليب الأسمر "عبد الحليم حافظ" لأغنيات: "أبوعيون جريئة، و"على قد الشوق"، وأنهت "الحلم" برائعة حليم الوطنية "أحلف بسماها وترابها"، والتى ضجت معها القاعة بالتصفيق الحاد من جانب جمهور تفاعل بحماس شديد ومنحها المشاعر الفياضة، عندما أعلنت "كارول" قبل أداء هذه الأغنية حصولها على الجنسية المصرية، فضلا عن توجهها بالشكر لزوجها وليد مصطفى، الذى وصفته بأنه نوع نادر فى مثال الوطنية المصرية الخالصة.
لا أنكر أننى فى هذه المرة حاولت أن أنجرف بتيار قلمى نحو مناطق وجدانية مغايرة، كى أكتب ما أشعر به من صدق المشاعر التى تجتاح أى منا، خاصة عندما يتعرض الإنسان لتجربة مغايرة من المتعة الفنية الغنائية بطريقة استعراضية بأسلوب كارول سماحة، الذى يقوى بالتأكيد على جعل مشاعر خاصة جدا تنمو بداخلنا، ونحن نحتاج فى أوقات كثيرة إلى توضيحها، وها أنا ذا أحاول أن أجارى صدق مشاعرى بما أكتب، تلك المشاعر التى تنمو بداخلنا دون أن نلتفت إليها، ولا نتعمد أن توجد فى إحساسنا، ولعل قلمى يطاوعنى بما أريد منسابا على غير العادة يخط الحروف بما أوتيت غاية صاحبته كارول سماحة.
هى حرة قبل كل شيء، فالموسيقى التى تقدمها تشبهها إلى حد كبير، تدخل دوما فى قلب المغامرة، وتندفع نحو المجهول، وربما يرجع ذلك لكونها القائلة: "بغامر بركض عالمجهول"؟!، لذا فهى تبدو لنا المطربة العربية المتحررة والملتزمة فى وقت واحد، فتارة تصبح كلاسيكية طربية، وتارة أخرى أكثر عصرية وتجددا، ومع ذلك فهى تبدو متأنية، وقورة، حالمة، ومتهورة جدا فى تجاربها الفنية التى تقوم على رفض كل ما هو تقليدى، وهو ما يجعلها فنانة ذات طراز مختلف، بل ربما هذا يدخلها فى مصاف الأوائل من النجوم، حيث تذكرنا فى أغانيها التى تختار لها الكلمات والموسيقى بعناية ودقة بزمن الكبار، أولئك الذين ينتمون إلى عصر الفن الجميل.
جريئة جدا فى طرح أفكارها التى تضعها دوما على حد السكين بحملها المخاطرة والمغامر فى طريقة طرحها للفن!، وليس هذا الأمر وليد المصادفة، فقد بدأت حياة الغنائية بألبوم اسمه "حلم"، وربما أيضا لأنها الموهبة التى خرجت يوما من مدرسة "منصور الرحبانى" بكل وقار وأدب وإخلاص، امتلأت به واختارت أن تتذوق طعما آخر من أنواع الفنون الرحبانية فى عصرها الذهبى، والتى كانت وماتزال حلم كثيرين من رواد الطرب اللبنانى، وقد لاقاها النجاح فى منتصف الطريق مرحبا بخلطة نادرة الصنع والخلق، إنها خلطة "كارول" التى تبعد تماما عن المواضيع السطحية والأفكار المستهلكة أوالتقليدية.
لذا عندما فجرت قبل أربعة أسابيع قنبلتها الفنية "المطلقة"، أحدثت نجاحا كبير مصحوبا بضجيج هائل منذ لحظة صدورها، لتبدو تحفة فنية متكاملة الأركان والعناصر أرادت فيها "كارول" مع الشاعر "على المولى" التجول فى دهاليز المجتمعات العربية المسكونة بأمراضها العضال وتخلفها الواضح، وصرخت عاليا: "أنا الحرة التى أبت أن تحكمها ورقة، ما زلت صالحة للحب، فالروح عذراء يا حمقى"، وقد عبرت عن واقع المرأة المطلقة ونظرة المجتمع لها، أمنت وصدقت وكرست تلك القضية الشائكة فى زمننا هذا، لتصبح موضوع فى غاية الجرأة والأهمية، "فالروح عذراء يا حمقى" جملة بألف قصيد، وكأن لسان حالها يقول: تبا للعادات والتقاليد الغبية أيها حمقى، قاصدة تلك النظرة القاصرة الموجودة داخل المجتمع العربى تجاه المطلقة!
فى هذه الأغنية أيضا أطلقت "كارول" ثورتها الفنية الكبيرة والمدوية برصاص حى باتجاه أصحاب المشاعر البليدة من أبناء عروبتنا، ورقصت على أوتار الإبداع والتألق فى عمل فنى اجتماعى وهادف بامتياز، فالكلمات يفوح منها عطر الجمال عبر قصيدة غنائية أشبه بالسمفونية الموسيقية، لحنها ووزعها "ميشال فاضل"، كما قام بإخراج الكليب المخرج "بهاء خداج"، الذى نجح إلى حد كبير فى رسم كادرات سينمائية فائقة الجمال والمهارة، أما صوت كارول فحكاية من تلك الحكايات الأسطورية التى ينبغى أن تحكى على مدار تاريخ الإنسانية.
بطول مشوارها الغنائى أحدثت "كارول" الجدل حول الكلمات التى تختارها بحرص شديد لتغنيها معبرة عن روح الحرية والتمرد الذى يسكنها طوال الوقت، فضلا عن غنائها للأطفال وللإنسانية بصفة عامة، لكن تظل أغنية "نعم أنا المطلقة" علامة فارقة فى مسيرتها الفنية، حيث أشعلت الجدل مؤخرا جراء تطرقها لموضوع لم يسبق تناوله غنائيا من قبل، كما أنها فى الوقت ذاته تمثل صرخة فى وجه النظرة الدونية للمطلقة فى العالم العربى، وتسرد معاناة النساء "المنبوذات اجتماعيا"بين أهلها وذويها.
ففى مقطع مصور مدته لا تزيد عن ثلاث دقائق، تأخذنا كارول فى رحلة مبطنة بعدة رسائل واضحة وصريحة، إذ تظهر بملابس سوداء، مطأطِئة قبل أن ترفع رأسها لتكشف عن وجهها الحزين، وفى الخلفية يعلو صوتها وهى تغنى: "حكموا على بالوحدة والجريمة: مطلقة.. نصب الناس لى من ألسنتهم مشنقة.. وصار لقبى مطلقة"، ثم أحدثت نوعا من التصعيد الدرامى لوضع المطلقة حين ختمت الأغنية بـ "نعم أنا الحرة التى أبت أن تحكمها ورقة.. ما زلت صالحة للحب.. فالروح عذراء يا حمقى"، ومن هنا تصبح هذه الأغنية بمثابة علامة فارقة فى رحلة "كارول الغنائية"، باعتبارها كسرت حاجز الصمت الذى رسمه المجتمع للمرأة المطلقة.
وعلاوة على كل ما سبق فمن خلال متابعتى لمسيرة "كارول سماحة" التى بدأتها عام 1996 بالمسرح الغنائى مع الراحل العظيم "منصور الرحباني"، لاحظت أنها خامة صوتية قوية ومميزة، وتتمتع بحضور مسرحى وغنائى طاغ، فضلا عن تمتعها بإحساس مرهف، كما لمست أن لديها باعٍ ليس بالقليل فى عالم "الكاسيت"، ومع ذلك أطلق عليها "ملكة المسرح"، نظرًا لأنها من أهم المطربات اللاتى قدمن حفلاتهن الغنائية بطابع استعراضى حماسى مغاير فى شكله وملامحه.
والدليل على ذلك حينما تستمع إلى صوت "كارول" فلابد لك أن تعرفها منذ الوهلة الأولى، ليس لأنه صوت مميز ويختلف عن المتواجد كثيرا فى الساحة الفنية العربية، بل لأنه يحمل بصمة خاصة تكسب صوتها بريق آخاذ يقوى أن يحلق بك فى سماء المتعة التى لا تنتهى على جناح نوع من الشجن المحبب، إلا أن خطواتها فى التمثيل كانت محسوبة بدقة، جراء امتلاكها موهبة فريدة وحضور دائم البزوغ فى عالم التمثيل والغناء معا، حيث بدأت حياتها التمثيلية مع مسرحية للشاعر الإسبانى "فيديريكو جارثيا لوركا"، وعاشت أدوار زنوبيا، ومريم المجدلية، وتغنت بأشعار رابعة العدوية.
أما كارول التى قدمت مولودها الاستعراضى الراقص الأخير "السيدة" الذى لطالما حاكى خيالها - كما عبرت - والذى اعتبرته ثورة لكل امرأة تنهض من رحم المصاعب، وتقف صامدة فلا تبخل بذرة جهد فى سبيل تحقيق أهدافها، فقد أضاءت سماء لبنان بهذا الاستعراض، بعد أن كان الظلام قد خيم عليه منذ فترة وأطلقت شعلة الاستعراض المسرحى الراقص التى انطفأت منذ زمن، لتقوم بما هو أصعب، ولتعبد الطريق لمن سيأتى بعدها، بعد أن اقتحمت أشواكها بعزيمتها وإصرارها وإيمانها بقدراتها على تحدى المستحيل.
وسط مجموعة من الراقصات والراقصين المحترفين الذين تدربوا تحت إشراف مدربى الرقص "سامى خورى وClaudi berolini" وقفت "السيدة" أو "كارول سماحة" شامخة كعادتها التى لا تغيرها لتصدح بصوتها، ولتهز المسرح بحضورها القوى، ولتقول: "ها أنا تحت الأضواء أنقل المشاهد من عالم الاستعراض التقليدى وأؤسس عالما جديدا من الفن الراقى"، وعندئذ نلحظ أنه قد اختلط الفرح بالحزن، والفن الشعبى بالطربى واستمتع الحضور بساعة ونصف من المشهدية المسرحية الراقية فى قالب استعراضى غنائى كثيرا ما حلمت بتحقيقه على الخشبة.
كما تألقت الفنانة كارول سماحة أيضا على عدة مسارح بيروتية من قبل، إذ قدمت "آخر أيام سقراط 1998 - ملوك الطوائف 2003 - زنوبيا 2007 - أبو الطيب المتنبى 2001"، وعلى مدى ساعات عرض تلك الأعمال المسرحية تضمنت لوحات استعراضية مميزة مع مجموعة من الراقصين، ووسط ديكور مميز ظلت تبدل فى أدائها من لوحة إلى أخرى، فضلاً عن الإضاءة التى أضفت على تلك الأعمال الكثير من الجمال والسحر، وقد أبدعت "كارول" بحضورها المسرحى فى تقديم لوحات بحركات راقصة بدت فيها بغاية الخفة والاحتراف، إذ كانت دوما تسخر جسدها بطواعية لخدمة الحضور الاستعراضى الذى احتاج منها إلى كثير من التدريبات القاسية بالطبع فى كل مرة.
غير أننا يجب ألا ننسى أننا عشنا مع "كارول" عدة عروض مسرحية - غنائية نجحت من خلالها بأداء احترافى عذب فى التوفيق بين البعد "الدرامى والتاريخي"، والنزعة المشهدية، وربما ساهم فى ذلك أن "الرحبانى" لا يكتب نصا أدبيا صرفاً ولا تاريخياً صرفا، بل هو ينطلق من وقائع التاريخ والسيرة ليبنى عرضا مسرحيا عماده الشخصية المستهدفة، ولم يتوان بدوره عن صوغ بعض القصائد والحوارات صوغا شعريا جميلا، مستوحيا عظمة هذا الشاعر العربى "المتنبى أو "زنوبيا أو سقراط أو حتى شخصيات ملوك الطوائف"، لتطل لنا الشخصية المجسدة على خشبة المسرح، متحررة من ثقل الكلام ومن المبالغة التى تقع فيها عادة العروض التاريخية، ومن الافتعال الدرامى الذى يعد سمة أساسية فى مسرحنا الحديث.
تألقت "كاول سماحة" دائما وأبدا عبر مسيرتها الفنية فى مجال الغناء والمسرح الاستعراضى بأسلوب احترافى لا يقوم على النص فقط، وإنما على لقاء النص بالموسيقى والإخراج والغناء والرقص والسينوغرافيا والإضاءة وغيرهم، وهى فى كل مرة تجعل العرض بأدائها المميز يتنامى تناميا دراميا، ويعتمد على تلاحم المشاهد واللوحات وإيقاعاتها المتتالية، وهى تلمس ذروتها فى مشاهد المعارك التى تستوحى الملحمية السينمائية، وخصوصاً عبر لعبة الإضاءة والسينوغرافيا والاكسسوارات الباهرة الأسهم، النار، البيارق، وغيرها من عناصر فنية أخرى تؤكد قدرات "كارول سماحة" على التجسيد بالغناء والرقص، لتصبح فى النهاية جديرة بلقب "سيدة المسرح الاستعراضى" بلا منازع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة