كانت الساعة الخامسة مساء يوم 25 إبريل - مثل هذا اليوم - عام 1921، حين أقبل سعد باشا زغلول على السرادق الفخم المقام له فى نهاية شارع أبوالمعالى، فى شبرا، حسبما يؤكد عبدالرحمن فهمى، قائد الجهاز السرى لثورة 1919 فى الجزء الثالث من مذكراته، مضيفا: «وقف الكل احتراما له وإجلالا، وحيوه بالهتاف العالى والتصفيق الشديد».
انعقد المؤتمر ضمن الاحتفالات بمناسبة عودة سعد زغلول ووفده يوم 4 إبريل1921، بعد فترة قضوها فى أوروبا لعرض قضية مصر طلبا لاستقلالها من الاحتلال الإنجليزى، ويعتبر المؤرخون هذا المؤتمر النقطة الفاصلة فى تاريخ العلاقات بين «سعد»، و«عدلى» الذى كان رئيسا للحكومة منذ 16 مارس 1921.
كان «محمد على علوبة باشا»، ضمن أعضاء الوفد مع سعد باشا فى باريس، ويؤكد فى مذكراته «ذكريات اجتماعية وسياسية»: «لما كلف السلطان فؤاد، عدلى باشا بتأليف الوزارة فى 16 مارس 1921، فرح الناس، وقد تألفت وزارة الثقة التى طالما سعى سعد ورفاقه إلى تأليفها»، وبالرغم من ذلك فإن الخلاف دب بين الاثنين، والسبب وفقا لعلوبة: «أخذ عدلى يفاوضه فى أمر تشكيل هيئة المفاوضين لكن سعدا، وقد اطمأن إلى مكانته فى الشعب صمم على أن يكون هو رئيس المفاوضين، وإلا فإنه يمتنع عن الدخول فى المفاوضة ويحاربها، ولما لم يجد النقاش معه نفعا، وكان يستحيل أن يرأس المفاوضين وفيهم رئيس الحكومة ووزير الخارجية، مما يخالف كل تقليد للحكومات، انحصر الخلاف إذن فى رئاسة المفاوضة التى تشبث بها سعد، ونجم عن ذلك مهاجمة سعد لوزارة صديقه عدلى».
فى كلمة سعد بمؤتمر شبرا، نسب إليه أنه وصف عدلى وإخوانه بأنهم «برادع الإنجليز»، حسبما يذكر محمد حسين هيكل باشا، فى الجزء الأول من مذكراته، لكن المثير أن مذكرات عبد الرحمن فهمى تأتى بنص الخطاب وليس فيه وصف «برادع الإنجليز»، قال سعد فى خطابه: «إن الرياسة لم تطلب لغاية شخصية ولا إرضاء لشهوة فى النفس فإن الضعيف الماثل أمامكم قد أحللتموه محلا ليس فوقه محل المؤمل، وإننى أشعر بكل ما فى من قوة أن هذه المنزلة لا يزيد فيها أن أكون رئيسا لعدلى ورشدى ما دمت متشرفا بتفضلكم على بأننى رئيسكم.. قالوا إعطاء الرياسة لغير رئيس الحكومة مخالف للتقاليد المعروفة.. ما هذه التقاليد؟، لكل بلد تقاليدها، فهل فى تقاليد مصر ما يمنع أن عظمة السطان يعطى الرئاسة لمن يشاء؟، كلا ثم كلا، وإذا صح فى البلاد الأوروبية أن رئيس الحكومة يجب أن تكون له الرياسة، رئاسة هيئة المفاوضات، فلا يصح ذلك فى مصر مطلقا بالنسبة للمهمة السياسية التى نحن بصددها، فإن مصر ليس بلدا دستوريا ووزراؤه لا ينتخبها الشعب، بل هى معنية من طرف الحاكم، فلا يمكنها أن تدعى أنها وزارة دستورية نائبة الأمة، فهى معينة من عظمة السلطان، بل وأجاهر بالحقيقة الآتية، المندوب السامى «البريطانى» أيضا، فالوزراة فى مصر لا تمثل الأمة لاحقيقة ولاحكما،بل تمثل سلطة الحماية المضروبة عليكم رغم أنوفكم، ورئيس الوزارة ليس إلا موظفا من موظفى الحكومة الإنجليزية يسقط ويرتفع بإشارة من المندوب السامى، وهو بهذه الصفة لا يمكنه أن يكون بإزاء رئيسه وزير خارجية إنجلترا حرا فى الكلام، لأنه مدين له بمركزه»، يضيف: «إذا كانت الحكومة المصرية هى التى تعين المفاوضين فهذا يعنى «جورج الخامس يتفاوض مع جوروج الخامس».
وقع الشقاق، وترتب عليه وفقا لعلوبة: «انقسام الأمة إلى فريقين، فريق عدلى، ويضم كثيرا من المثقفين ووجهاء البلاد ممن عرفوا حقيقة الحال، وفريق سعد، ويضم كثيرا من حسنى النية الذين أثرت فيهم النداءات والمهرجانات ومن النفعيين الذين ينتهزون الفرص من العامة والبسطاء»، يذكر «هيكل باشا»: «بدأ حديث الخلاف يتسرب من الأندية الخاصة إلى الأماكن العامة وإلى المقاهى، وبدأ الناس يختلفون: يرى بعضهم الحق فى جانب سعد، ويرى الآخرون الحق فى جانب عدلى، وسرعان ما اندلع لهب الخلاف، وانطلقت المظاهرات فى الشوارع منادية بحياة سعد، ورأت الوزارة أن من الواجب عليها أن تعيد الأمن إلى نصابه وتقمع الفوضى، فنشأ عن ذلك اشتباك متكرر بين البوليس، و«بولك الخفر» وبين المتظاهرين كثيرا ما كان ينجلى عن جرحى من الفريقين، وقتل أثنائه بعض الأفراد».
يتهم «هيكل باشا»، سعد باشا، قائلا: «كان سعد بطبيعة الحال يشجع هذه المظاهرات علنا، ويتخذها عنوانا صادقا على تأييد الأمة له ونبذها من لا يسلمون بزعامته، بل لقد ذهب فى التشجيع مرة إلى أنه ذهب إلى حيث قتل أحد المتظاهرين، وغمس منديله فى دمه، ونادى الناس بأن عدلى هو الذى يحمل وزر هذا الدم»،غير أن أحمد بهاء الدين فى كتابه «أيام لها تاريخ» يراها: «معارك الشوارع التى لاسبب لها إلا عدم الخضوع لإرادة الناس مما يضطرهم إلى العنف»، ويؤكد: «سعد كان ممثل إرادة الناس».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة