بالنظر إلى الزيارة الأخيرة للرئيس السيسى إلى واشنطن، وما واكبها من اتصال أجراه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مع ولى العهد السعودى محمد بن سلمان، فإن قمة تونس ينبغى النظر إليها باعتبارها قد عُقدت فى ظل أزمات شديدة الحساسية، بالغة التعقيد، وإن لم تكن فى مجملها حديثة، ما جعل منها قمة صعبة لا تملك الكثير من الخيارات فى مواجهة جملة من الملفات الشائكة التى اصطفت على مائدتها الواسعة التى ضمت الكثير من الزعماء العرب، الأمر الذى عكس بوضوح وسطية الخطوات التونسية على الساحتين الإقليمية والدولية، فضلاً عن منطقتنا العربية.
وفى هذا السياق يمكن الاستناد إلى الإعلان الختامى للقمة الثلاثين التى استضافتها تونس مؤخراً، سبيلاً مقبولاً لقراءة موضوعية فى نتائجها المتوقعة، وما ينتظرها من تبعات. وفى ذلك أود الإشارة إلى نقاط بعينها، وذلك على النحو التالى:
فى مقابل إعلان قمة الظهران السعودية عام 2018 الذى نص على عدم شرعية الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومطالبة دول العالم عدم نقل سفاراتها إلى القدس أو الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. جاء إعلان قمة تونس 2019، وقد رسخت أمريكا قرارها فنقلت سفارتها بالفعل إلى القدس، وتبعتها عدة دول، لعل آخرها البرازيل التى أعلنت بالتزامن مع قمة تونس فتح مكتب لها بالقدس يتبع سفارتها، وهى خطوة تُمهد لتنفيذ وعد الرئيس البرازيلى بنقل سفارة بلاده إلى القدس.
كررت قمة تونس التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية فى العمل العربى المشترك، ومواصلة بذل الجهود لإعادة إطلاق مفاوضات «جادة وفعالة ضمن جدول زمنى محدد تساعد على التوصل إلى تسوية تحقق السلام العادل والشامل وفق مرجعيات العملية السلمية وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية كما طُرحت سنة 2002، ومبدأ حل الدولتين». وقد استبقت القمة بذلك الإعلان الأمريكى المنتتظر عن «صفقة االقرن» المقرر الكشف عن تفاصيلها بعد الانتخابات الإسرائيلية وتشكيل الحكومة، وكانت واشنطن قد استبقت قمة تونس بالإعلان عن توجيه الدعوة إلى الرئيس عبد الفتاح السيسى لزيارة البيت الأبيض، وهى الزيارة التى احتلت فيها الملفات الإقليمية صدارة المباحثات، نظراً لما تحمله مصر من مسؤولية قومية، فى إطار مواجهة تحديات ومخاطر شتى تواجه الأمن القومى العربى.
عُقدت قمة تونس على خلفية أزمات وانقسامات حادة تشهدها الدول العربية، من بينها أزمة المقاطعة الرباعية لقطر، التى غادر أميرها القمة بعد افتتاحها مباشرة، وأثناء إلقاء الأمين العام أحمد أبو الغيط كلمته التى انتقد فيها دور إيران وتركيا فى المنطقة، ما يشير إلى عدم وجود تقارب نحو اتجاه الأزمة إلى الحلحلة، إلا أن إعلان القمة رحب بالعنوان الذى اختاره الرئيس التونسى للقمة، «قمة العزم والتضامن»، مع التأكيد على «مواصلة الجهود المشتركة، وفق رؤية موحدة، من أجل تمتين أواصر التضامن العربى وتوطيد مقومات الأمن القومى العربى بمفهومه الشامل»، وفى السياق ذاته أكد إعلان القمة على أن «المصالحة الوطنية والعربية، تمثل نقطة البداية الضرورية لتعزيز مناعة المنطقة العربية وأمنها واستقرارها وتحصينها ضد التدخلات الخارجية»، وهو حديث كما نعلم جميعاً يواجه عقبات ثقيلة فى طريقه.
رغم عدم حدوث توافق عربى على حضور سوريا القمة، المجمدة عضويتها منذ 2011 بعد تفضيل الرئيس السورى بشار الأسد الخيار العسكرى فى مواجهة الاحتجاجات الشعبية التى شهدتها بلاده، إلا أن إعلان تونس أكد على أن «الجولان أرض سورية محتلة، وفق القانون الدولى، وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وباعتراف المجتمع الدولى»، فيما يعنى رفضاً عربياً لإعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان أثناء استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو فى البيت الأبيض مؤخراً، وهو الأمر الذى أتصور أن الرئيس السيسى قد أكد عليه فى زيارته الأخيرة للبيت الأبيض، فمصر دائماً تنتصر للشرعية الدولية، وكان الاتحاد الأوروبى قد أعلن رفضه ضم إسرائيل للجولان ومعارضته للإعلان الأمريكى فى هذا الشأن، ومن ثم دعا إعلان تونس إلى «تسوية سياسية تنهى الأزمة القائمة فى سوريا، استناداً إلى مسار جنيف، وبيانات مجموعة الدعم الدولية لسوريا، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة».
ولم يغفل إعلان قمة تونس الإشارة إلى جملة من الملفات العربية الشائكة والقديمة فى نفس الوقت، من بينها مساندة الجهود الإقليمية والدولية من أجل إعادة الشرعية إلى اليمن، استناداً إلى اتفاق استوكهولم الذى رعته الأمم المتحدة فى ديسمبر 2018، مع التأكيد على أهمية تكثيف الدعم للشعب اليمنى لتجاوز محنته الإنسانية، كذلك أكد إعلان تونس على «المزيد من تطوير علاقات التعاون والتنسيق الأمنى بين بلداننا، وتكثيف الجهود لمحاربة التطرف والإرهاب بجميع أشكاله»، فضلاً عن التأكيد على حق دولة الإمارات العربية المتحدة فى جزرها الثلاث المحتلة من جانب إيران، والتأكيد على إدانة استهداف المدن السعودية بالصواريخ، مع إبداء التضامن مع السودان فى جهوده لإحلال السلام والتنمية، ودعم جهود الصومال الفيدرالية لنشر الأمن ومحاربة الإرهاب، والترحيب بالانتخابات الرئاسية فى جمهورية القمر الاتحادية التى تمت مؤخراً، 24 مارس 2019، بنزاهة وهدوء، هذا إلى جانب بنود تؤكد الأهمية المحورية للتنمية الشاملة فى النهوض بأوضاع المنطقة، مع ضرورة تحسين مؤشرات التنمية العربية، والتأكيد على أهمية البعد الاقتصادى والتنموى فى العمل العربى المشترك.
على هذا النحو جرت القمة العربية وقد تناولت كل أوجاع الأمة العربية، مثلما عبر عنها الرئيس السيسى بصدق فى البيت الأبيض مؤخراً، لتظل الأوضاع على الأرض تنتظر جديداً يحقق الطموحات العربية المشروعة فى حياة كريمة حرة، تقبض فيها الأمة العربية بيد من حديد على مقدراتها وفرصها الحقيقية فى بلوغ موقع أفضل بين الأمم، فى ظل منظومة علاقات دولية تُدير ظهرها للضعفاء غير القادرين على توحيد صفوفهم، فى مواجهة ما يحيط بهم من تحديات ومخاطر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة