يبدو أن قرار وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف بتقديم استقالته، عبر حسابه على موقع "انستجرام"، لم يكن اعتباطا، وإنما كان بمثابة خطوة مدروسة، إلى حد كبير، تحمل فى طياتها الكثير من الحسابات، التى تفوق فى أبعادها الدولية ما يتعلق بالشأن الإيرانى الداخلى، فى ضوء الكثير من المعطيات الدولية التى شهدت اختلافا جذريا، منذ الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى، الذى أبرمته طهران مع القوى الدولية الكبرى فى يوليو 2015، برعاية الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، وبالتالى عودة العقوبات الأمريكية التى وضعها الرئيس دونالد ترامب على رقبة الملالى، فى خطوة تمثل تقويضا للجهود التى بذلتها إدارة الرئيس حسن روحانى للخروج من حالة العزلة التى عاشتها طهران لعقود طويلة.
فعلى الرغم من أن الأبعاد الظاهرة للاستقالة المثيرة للجدل تتمحور حول الصراع الداخلى بين الجناح المتشدد، والمدعوم من قبل المرشد الأعلى على خامنئى، ومن وراءه قيادات الحرس الثورى، من جانب، والتيار المعتدل، والذى يتزعمه روحانى وفريقه، إلا أن قرار ظريف حمل رسالة دولية، تستهدف أطراف المجتمع الدولى التى مازالت تراهن على مرونة التيار المعتدل، فى التعاطى مع المطالب الدولية المتعلقة بالملف النووى الإيرانى.
فزاعة المتشددين.. استقالة ظريف لإثارة مخاوف الغرب
وهنا يمكننا القول بأن قرار الاستقالة عبر "السوشيال ميديا" كان بمثابة تحذيرا ضمنيا لدول "المعسكر الغربى" خاصة فى أوروبا، من جراء تراجع أسهم المعتدلين فى المعادلة السياسية الإيرانية لصالح التيار المتشدد، بسبب فشل الاتفاق النووى، وعودة العقوبات، وما سوف يترتب على ذلك فى المرحلة المقبلة، خاصة فيما يتعلق بالمخاوف الأوروبية من عودة طهران لأنشطتها النووية من جديد، بالإضافة إلى استمرارها فى تجاربها الصاروخية، والتى كانت أحد الأسباب الرئيسية فى قرار الانسحاب الأمريكى من الاتفاقية فى مايو الماضى.
خامنئى والحرس الثورى
ولعل الرسالة التى أراد ظريف أن يقدمها عبر استقالته تجسدت بشكل أكثر وضوحا فى تصريحاته التى أدلى بها إلى أحد الصحف الإيرانية، بعد يوم واحد من الاستقالة المزعومة، حيث أكد خلالها أن الصراع بين الأحزاب والفصائل فى إيران له تأثير "السم القاتل" على السياسة الخارجية، معتبرا فى تصريح أخر أن استبعاده من اللقاءات التى جمعت الرئيس الإيرانى والمرشد الأعلى بالرئيس السورى بشار الأسد، بمثابة إهانة لمنصب وزير الخارجية الإيرانى، لتكون بمثابة دليلا يقدمه على ضعف شوكة المعتدلين لصالح التيار المتشدد، فى الساحة السياسية الإيرانية، باعتباره أحد أعمدة النظام الإيرانى الحالى، وذلك رغم بقاء الرئيس روحانى، المحسوب على المعتدلين، فى قمة السلطة.
وهنا تصبح المقاربة التى حاول ظريف أن يجدها، عبر قراره بالاستقالة، بين الصراع السياسة الداخلى فى طهران من جهة، والسياسة الخارجية من جهة أخرى، أكثر وضوحا، حيث سعى ظريف لاستدعاء ما يمكننا بتسميته بـ"فزاعة" المتشددين، ربما لتقديم رسالة للقوى الغربية مفادها "سقوط رهانهم على التيار المعتدل فى طهران"، خاصة وأن دعم تيار روحانى، فى معركته الداخلية مع التيار المتشدد، كان بمثابة أحد الأهداف الرئيسية التى تبنتها إدارة أوباما، والقوى الدولية الأخرى التى وقعت على الاتفاقية النووية قبل ما يقرب من 4 أعوام.
دعايا المتشددين.. تيار خامنئى المستفيد من الاتفاق مع "الشيطان الأكبر"
المخاوف التى سعى وزير الخارجية الإيرانى لإثارتها فى نفوس الغرب الداعم للمعتدلين، ربما تجد مرجعيتها فى موقف التيار المتشدد من الاتفاقية النووية الإيرانية، والتى أثارت قدرا كبيرا من الجدل فى الداخل الإيرانى فى مراحل التفاوض والتوقيع، وحتى دخولها حيز النفاذ، والذى ترتب عليه رفع العقوبات الأمريكية، حيث لم يتنازل المتشددون عن شعار "الموت لأمريكا"، والذى أطلقوه قبل 40 عاما بالتزامن مع انتصار الثورة الإيرانية فى عام 1979، بينما أبدوا امتعاضهم من الاتفاق مع القوى الغربية، متهمين الرئيس روحانى ونظامه بـ"الخيانة".
زيارة الأسد لطهران كانت مدخلا لاستقالة روحانى
إلا أن الدعاية التى تبناها المتشددون لمعارضة الاتفاق، والذى جاء برعاية "الشيطان الأكبر"، ربما لم تتعدى كونها أكثر من مجرد "قناع" حاولوا من خلاله إخفاء الاستفادة الكبيرة التى حققوها جراء رفع العقوبات الأمريكية، والتى تجسدت فى الزيادة الكبيرة فى الدعم الذى قدمته طهران، إلى الميليشيات الموالية لها فى العديد من دول المنطقة، وهو ما يخدم أجندة التيار المتشدد فى الأساس، بالإضافة إلى تحقيق قدر من الانفتاح على العالم، عبر استقطاب استثمارات أجنبية من العديد من دول العالم، وبالتالى تهدئة حالة الغضب الداخلى جراء الفشل الاقتصادى الذى تعيشه الدولة الفارسية لسنوات جراء العقوبات.
أجندة واحدة.. سليمانى يقبل يد روحانى على الملأ
ولعل التوافق بين التيارات الإيرانية، فيما يتعلق بالاتفاق النووى، تجلى فى أبهى صوره، خلال الحرب الكلامية التى نشبت بين الرئيس الأمريكى من جانب ومسئولين بالنظام الإيرانى وقيادات بالحرس الثورى على حد سواء، من جانب أخر، حيث شهدت التصريحات التى أدلى بها الرئيس المعتدل، والقيادات المتشددة تطابقا، يمثل انعكاسا صريحا للتقارب الكبير فى الأجندة الدولية للجانبين.
العقوبات الأمريكية كشفت تطابق الخطاب الإيرانى
فلو نظرنا إلى التعليقات التى أدلى بها مسئولو طهران، تعليقا على العقوبات الأمريكية التى ترتبت على انسحاب ترامب من الاتفاق النووى، نجد أنها حملت قدرا كبيرا من التشابه الذى يصل إلى حد التطابق، حيث هدد الرئيس روحانى صراحة فى يوليو الماضى، بمنع تصدير النفط بالكامل عبر مضيق باب المندب، إذا منعت طهران من تصدير نفطها، وهو التصريح الذى لاقى إشادة خصومه قبل مؤيديه، وأبرزهم قائد فيلق القدس قاسم سليمانى، والذى قال "هذا هو الدكتور روحاني الذي نعرفه، أقبل يديك علي هذه التصريحات الحكيمة التي جاءت في وقتها، أنا في خدمتك لتطبيق أي سياسة تخدم المصالح الإيرانية".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة