تمر هذا الشهر مائة عام على ثورة 1919، هذه الثورة التى عبرت عن تطلعات المصريين للاستقلال عن بريطانيا الإمبراطورية العظمى، حيث هب المصريون فى ثورة شعبية يوم 8 مارس احتجاجًا على نفى سعد زغلول وصحبه المطالبين بالاستقلال، كانت هذه الثورة عفوية من حيث المظهر، لكنها فى حقيقة الأمر ليست عفوية، بل ثورة حقيقية.
إن مصر التى قامت بها ثورة فى العامين 1881و 1882 بقيادة أحمد عرابى انتهت باحتلال الإنجليز لمصر، هذا الاحتلال الذى ظلت بريطانيا تخطط له منذ غزو نابليون بونابرت مصر العام 1798 والذى انتهى بخروج فرنسا من مصر 1801، ثم مرت ست سنوات لنصل إلى أول محاولة بريطانية لاحتلال مصر 1807 فشلت فشلا ذريعا، لتطلق بريطانيا جواسيسها ومنهم لين بول الذى كتب كتابا سمى وصف مصر، كان تقريرا لغزو مصر، درس فيه كل شيء عن تفاصيل حياة المصريين، ثم كان احتلال بريطانيا مصر بعد مقاومة مصرية عنيفة، كان أحد أسباب الاحتلال هو تضارب قرارات السلطان العثمانى بين تأييد ودحض الثورة العرابية التى كانت تسعى إلى تحجيم سلطة حاكم مصر (الخديو) وإقامة سلطة دولة حديثة، اهتزت ثقة المصريين فى الدولة العثمانية بشدة، وزاد الطين بله سلبية الدولة العثمانية تجاه انسحاب بريطانيا الذى رهنته باستقرار الأوضاع.
كان حزب الثورة العرابية الحزب الوطنى الحر حل ظاهريا فى أعقاب الاحتلال البريطانى، لكنه فى حقيقة الأمر كان يعمل تحت الأرض، وانتقلت زعامته إلى سعد زغلول قبيل الحرب العالمية الأولى كانت لهذا الحزب مظاهر عامة، تجلت فى مشروع الجامعة المصرية، وتحزب حول سعد زغلول إلى أن انتخب وكيلا للجمعية التشريعية (البرلمان) ودعم الجمعية الزراعية الملكية التى كانت تسعى للنهوض بالفلاحين. فضلا عن السعى لنشر التعليم ومقاومة النفوذ البريطاني.
جاءت الحرب العالمية الأولى لتعلن بريطانيا الحماية على مصر وتنزع ما تبقى من سلطة للدولة العثمانية على مصر، وعلى الرغم من وجود تعاطف ما مع الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى، إلا أن المساندة لها من المصريين كانت محدودة.
بانتهاء الحرب العالمية الأولى، قررت النخبة المصرية المطالبة باستقلال مصر، لذا لم تكن ثورة 1919 عفوية، بل ثورة عبرت عن سخط المصريين وإدراكهم لمتطلبات مستقبل بلدهم.
وبين شد وجذب وصعود وغضب ظلت الأوضاع فى مصر فى ثورة مستمرة من 1919 إلى إعلان بريطانيا فى 28 فبراير 1921، هذا الإعلان الأحادى أمر باستقلال مصر مع تحفظات أربع، لكن هنا لابد وأن نشير إلى ما يلى:
-لم تقاوم مصر بريطانيا العظمى وجيش الاحتلال مقاومة عنيفة مسلحة إذ لم يكن تحت يد المصريين السلاح اللازم لذلك، ولكنها كانت مقاومة سلمية إلا فى حالات محددة، إذ حل الإنجليز الجيش المصرى وتحول ما تبقى منه إلا قوات حرس حدود وقوات شرفية للاستعراضات، وكان الإنجليز هم المتحكمين فى الشرطة المصرية.ولذا كانت مصر بلد وشعب منزوع السلاح.
- أدركت النخبة المصرية الوطنية مبكرا أن الاعتماد على الذات سبيلها للاستقلال، لذا سعت مبكرا إلى نشر التعليم والوقف عليه، بل ابتعثت الأسر المصرية من الطبقة المتوسطة أو الثرية أبنائها للتعلم فى بريطانيا وكان منهم محمد محمود الذى تعلم فى أكسفورد وكان مشروع الجامعة المصرية نشطا، فابتعث إلى فرنسا فكان طه حسين، وإلى بريطانيا وغيرهما.
- كان الاقتصاد هو محور الحراك الوطنى المصرى لذا سعى المصريين إلى تمصير عصب الاقتصاد، بدءًا من بناء استراتيجيات مبكرة لصناعة السكر منذ أوائل القرن العشرين أتت ثمارها لاحقا، ثم نضجت مع ثورة 1919 فكان مشروع بنك مصر ثم التصنيع ... الخ.
- رأى الساسة المصريين أن بناء مصر يقتضى إتمام الاستقلال عبر مفاوضات مع بريطانيا أثمرت اتفاقية 1936 التى ألغاها حزب الوفد فى 1951، لكن ترتب على معاهدة 1936 بناء جيش مصري، وصعود الطبقة الوسطة وحراك اجتماعى غير مسبوق.
- أعلن الملك فؤاد استقلال مصر فى 15 مارس 1922 وتفادى إعلانه فى 28 فبراير حتى لا يكرس رغبة بريطانيا بل جعل تاريخ الاستقلال بيد مصرية، وفتحت سفارات لمصر فى لندن وباريس وموسكو وواشنطن.
إن ما سبق نتج عنه دستور 1923 والذى على كل ما أخذ عليه، إلا أنه يعد دستورا كرس إلى حد ما نظام ملكى دستوري، شكل بمقتضاه سعد زغلول زعيم حزب الوفد أول حكومة منتخبة فى تاريخ مصر، هذا ما كرس حياة سياسية وزخم وحراك ثقافى وفكري، فأصبحت مصر هى درة الشرق فى ذاك العصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة