لافتة قماشية معلقة على واجهة محل صغير فى الجيوشى- شبرا، تقرأ فيها عجبا، لن تجد مثلها إلا فى مصر، هى دى مصر كما يقولون، اللافتة موحية، وما كتب فيها يحمل معان، ويجمل تفصيلا، ويشيع محبة، ويترجم وطنًا.
نصها: «وداعا للأب المحبوب، القمص صليب متى ساويرس، والتوقيع، الحاج سيد السنى، الحاج جمال السنى، الحاج حافظ السنى».
مظاهرة الحب فى تشييع القمص صليب متى ساويرس فى الجيوشى فاقت الحزن بكثير، تعبر عنها السنة العابرين الذين خبروا محبة وطيبة هذا الراعى الصالح، كان بينه وأهله فى شبرا جيرة طيبة، ومحبة خالصة، وعشرة عمر دافئة، كان يحتويهم ببشاشته، ويشيع فيهم المودة بطيبته.
وخبرتى بمحبته لاتكفيها سطور، كان سباقًا إلى المحبة، مفطور عليها، لا تكتمل فرحة العيد إلا برسالة تهنئة رقيقة من الكبير سنا ومقاما القمص صليب، وظل يحرص منذ ربع قرن ونيف على صداقتنا فى حب الوطن أن يكون من السباقين إلى التهنئة الهاتفية، فإن لم يظفر بصوتى لأسباب مانعة، يختم برقيته الإلكترونية بتوقيعه الأثير، أخوكم صليب.
أفتقده غيابا، تركنا ورحل، وأنعيه سطورا، ولا أجد من كلمات الرثاء ما يوفيك حقك فى المحبة، غادرنا فى مفترق الأيام رجل حكيم، طيب ودود، يذوب رقة، ويحمل قلبا طيبا، قلب إنسان، يتسع لهموم المتعبين، ويبلسم جراح المجروحين، ويطبب ويجبر الخواطر، وليس أحب إلى الله من جبر الخواطر.
تكر الأيام والسنون على أول لقاء، لا أتذكر هذه المناسبة التى جمعتنا، ومن أول لقاء بتنا أصدقاء، وعلى البعد حافظ على صداقة رائعة، لديه أجندة قلبية موقوتة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وبادر باتصال، فى فرح حاضر بروحه، وفى حزن حاضر بجسده، يغبر قدميه فى الأحزان والأتراح، لاتفوته مناسبة، صاحب واجب كان.
سنوات مضت لم ألتقه، ولكن طيفه حاضرا، ودوما على البال، وفى القلب، كنت أراه بسجاياه وصفاته مجسدا فى الآية الكريمة «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»، كان أبا متواضعا يخجل الكبير من فرط تواضعه فى حضرة الصغير قبل الكبير.
مضى إلى السماء رجل طيب، والطيبون كالأحجار الكريمة، لا تبلى سيرتهم، لا يغيبون أبدا، كانت تؤثرنى روحه الطيبة، وعطفته المستدامة، ومودته الموصولة، وسأفتقد رسائله المكتوبة بحروف مغموسة فى مداد المحبة الخالصة، كل هذا الحب يغسل القلوب، ويجلى المعدن النفيس، ويبرهن على أن ما بين أبناء هذا الوطن أقوى من الزمان.
لم أستغرب فجيعة أبنائه الذين تربوا على يديه، فى كفيه حبا يلتقطه صغار الطير، وفى عينيه عطفا، وفى قلبه رحمة، تاريخه فى الخدمة الكنسية معلوم، ولكن تاريخه فى الخدمة الوطنية لا يعرفه إلا من خبر معدنه المصرى الأصيل الذى تشى بها عظاته فى كنيسة الجيوشى التى عرفت به وعرف بها، وعرفه هناك المسلمون قبل المسيحيين، قليل من يجتمع عليه الأحبة، ولا ينظرون إلى لون الرداء الكهونتى الأسود.
كان قصة وطنية نسجها بدأب، وبحب، وبإحساس عارم بشجون الوطن، وكانت مائدته فى رمضان المحل المختار لكل المحبين، كان يدعو إليها المحبين جميعًا، كنت أستغرب من أين له هذه السعة ليعزم مصر كلها، فكان الرد لطيفًا بابتسامة متألقة، البركة فى القليل، كان رجل بركة بالمعنى الحقيقى لكلمة البركة التى تليق بالطيبين.
لم ينشغل عن الوطن بظرف طارئ، ولم يذهب إلى طائفية، ولم يسجل عليه حرفًا يجرح، ولم يتوان عن واجب، ولم يتأخر عن وطنه، دون ادعاء أو زيف أو رياء، يبكيه أهل شبرا حبا، كان محبا يحب الحب فى أهله، ويكره الكره فى أهله.. مكانه السماء مع القديسين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة