تغييب الوعى هى أحد أهم وسائل إسقاط الدول.. والوعى المقصود هنا ليس الوعى السياسى أو الوعى بحقوق الإنسان، ولكن المعركة تبدأ مع تغييب الوعى الدينى والثقافى والفنى والصحى لتنتهى بشعب مغيب سياسيا، فيسهل السيطرة عليه وتوجيهه، وهذا ما تعرضنا له منذ ثمانى سنوات فى مصر وأقطار عربية أخرى، وما وصلنا إليه فى يناير 2011 والانسياق وراء مؤامرة تم التخطيط لها، ثم التنفيذ بعناية وترتيب، وطبقت فيها أحدث أساليب الحرب، حروب الجيل الرابع، حيث تنطلق الحرب بدون رصاص ولكن تحت شعار «لا تقتل عدوك.. دعه يقتل نفسه».
فى الستينيات تعرضنا لمعركة شبيهة انتهت بنكسة يونيو وفى 2011 تعرضنا للمؤامرة مرة أخرى، ولكن هذه المرة سبقها إعداد جيد عبر سنوات طويلة، كانت هناك مشروعات كبيرة ورجال أعمال كبار وقطط سمان، وكان هناك نمو اقتصادى ولا توجد تنمية، نمو تعيشه طبقة معينة ولا يحس به باقى طبقات الشعب، وعبر سنوات طويلة تعرضت مصر لحالة من تغييب الوعى المتعمد، شارك فيها النظام ربما بحسن نية وربما بعدم إدراك أو تقدير جيد لما كان يحاك بالدولة من مؤامرات، تابعت عبر حوالى عشرين عاما التحول الذى عاش فيه القارئ المصرى، الذى تغيرت بوصلته للقراءة من كتب سياسية وثقافية وعلمية إلى الكتاب الدينى، الذى بات يحقق أعلى المبيعات فى معرض القاهرة للكتاب، ومع مرور السنوات تغولت دور النشر الدينية على حقوق ومواقع دور النشر الثقافية وتحول ناشر الكتاب الدينى إلى مركز قوة فى سوق النشر، كانت تلك البداية.. بداية تغييب الوعى، فالكتاب الدينى ليس هو كتاب الدين الوسطى، بل هى كتب لابن تيمية وكتب تحمل عناوين عذاب الغير والثعبان الأقرع وما هو على شاكلة ذلك، وفى المقابل كانت كتب أخرى تنتشر تحكى عن السحر والخرافات، وكيف تصبح مليونيرا فى ساعات.. غاب الوعى الثقافى، فالذى قتل فرج فودة لم يقرأ كتابا له، ولكنه قتله، لأنه استطاع أن يدحر فكرا ظلاميا فى ندوة معرض الكتاب، الذى حاول قتل نجيب محفوظ، لم يقرأ رواية له ولكن عقله امتلأ بكتب التكفير والهجرة.
وأصبحت محاضر ضبط المتهمين فى التنظيمات الدينية تضم فى إحرازها بجانب المفجرات والأسلحة كتب الأئمة الذين يدعون للتكفير، تكفير كل شىء وكل فكر، فى المقابل حاولت الدولة وقف نزيف الوعى بإصدار مكتبة الأسرة، ولكن التيار الآخر كان الأقوى والأكثر صرفا ودعما لكتابه، لتغييب الوعى لم تكن الوسيلة هى الكتاب فقط، ولكن انطلقت سلسلة أفلام ومسلسلات صنعت نجوما وقدوة سيئة للشباب، وعودت المشاهد المصرى على مشاهد الاغتصاب والقتل وزنا المحارم، والدولة تحولت إلى ميدان قتال أو شقة دعارة كبيرة، وفى طريق التغييب اختفت الأغنية التى كانت تحمل المعانى الجميلة، وصنع الفن صورة سيئة لمصر فى الخارج، وصدر لها فى الداخل غيابا للقيم، كل ذلك صنع أجيالا تم تغييب الوعى لدى أغلبها، فكان من السهل السيطرة عليها حتى عندما خرجت فى يناير لتدعو إلى الحرية والعيش والكرامة والعدالة الاجتماعية لم تقاوم السارقين ولا البلطجية، وهم يسرقون المحلات ويشعلون النار فى السيارات، فتحولنا إلى نموذج قريب من الأفلام التى سبقت يناير ولولا لطف من الله ووعى من القوات المسلحة بطبيعة دورها الحمائى للدولة، لكنا نموذجا فعليا لنهايات سوداء صنعتها الأفلام، ولكنا حققنا للمؤامرات هدفها وأضعنا وطننا كما حدث حولنا.
تغييب الوعى الفنى والثقافى كان يسير جنبا إلى جنب، مع تغييب الوعى الدينى غاب الدعاة المعتدلون وتحلق الشباب حول أصحاب الدعوات السلفية والتكفيرية، وما بين تحريم السلام على المسيحى إلى قتل الشيعى وانشغال الشباب بطول الجلباب والذقن، ونسوا الدور الحقيقى للشباب فى التنمية، ورسم ملامح المستقبل، وكشفت يناير عن كثير من الظواهر التى طالت الشباب، ففى الميدان تجمع الكل، شباب طاهر انساق وراء شباب مدرب عرف كيف يستقطبه وكيف يوقع به.
اختفى الداعية الوسطى وظهر برهامى وغيره، ومع انهيار الوعى الدينى انتشرت أيضا دعاوى السحر والشعوذة وجلب الحبيب ودرء الفقر واستعادة الغائب، وما بين انهيار للوعى الثقافى والفنى وابتعاد الوعى الدينى عن مسيرته الصحيحة، غاب أيضا الوعى السياسى ليصبح الشباب فريسة لما حدث، وبعد سنوات من المؤامرة وفى محاولة لإعادة الوعى، يجب أن نبدأ من الكتاب والمسلسل والفيلم وهى أجنحة صناعة الوعى للشعب.. مطلوب من اليوم أن نتكاتف لنقدم للأجيال الجديدة كتابا يحمل محتوى ومسلسلا يقدم فكرة وقدوة.
البداية من الكتاب والبداية من القراءة، وكما كانت أولى كلمات الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم هى «اقرأ» يجب أن نبدأ من هنا، ولكن ماذا نقرأ ومتى وأين ومن يكتب وما هو المحتوى، هذه هى القضية الأهم التى يجب أن نركز فى بحثها وأن نتكاتف لنحلها، إذا كان لدينا الكتاب، فسيعود لنا الوعى، وإذا عدنا للقراءة سنبدأ الفهم، ومن هنا سيولد الوعى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة