أصدر مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية تقريرا تحت مسمى "كبسولات شرعية" حمل عنوان "ميراث المرأة فى الإسلام"، أكد فيه أن الشريعة الإسلامية تميزت بصلاحيتها لكل زمان ومكان، ومراعاتِها جميعَ أحوال الناس على تنوعِهم واختلافِهم؛ لما تمتَّعَتْ به من مُرُونة.
ولكنَّ هذه المرونة ليست سمةً لجميع نصوص الشريعة، فبعضها ثابتٌ راسخٌ لا مجال للاجتهاد فيه، كالنصوص التى تُقرِّر جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق؛ حتى تجمع الشريعة بين رسوخ الأصول الذى يُكَوِّن هُوية المسلم وشخصيته، وبين مرونة التعامل مع الواقع ومتغيراته فى آن واحد.
وإن النصوص المتعلقة بالميراث فى الإسلام لَمِن هذا القسم الراسخ الذى لا يقبل الاجتهاد أو التغيير، فقد تَولَّى الله عز وجل وضْع أُسسه وضوابطه بنفسه؛ لأهميته، وعِظَم خطره؛ فلا يخفى على أحد أن الظلم فى الميراث ربما يتعدى لأجيال متتابعة، أو تُقَطَّع لأجلِه الأرحام، بل وقد تُرتكَب بدافعه الجرائم.
ورغم أن الشرع الشريف قد ضَبَط هذا الباب، وأزال منه أسبابَ النِّزاع والشِّقاق إلَّا أنَّه لم يسلم من المعارضات، بل والاتهامات بالتحيُّز والظلم وانتقاص الحقوق.
وذكر المركز فى بيانه انه قبل أن نوضح فلسفة توزيع الميراث فى الإسلام؛ لا بد من بيان النقاط الآتية:
أولًا: إن المُسلم الذى استسلم لله عز وجل، ورضى به ربًا، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، يكفيه لالتزام أمرٍ ما؛ أن يعرف أن الله عز وجل هو الآمر به؛ لما عَرَفَ من صفاته سبحانه، فهو الحَكَم العدل المُحيط، الذى يعلم خلقه، ويعلم ما يُصلحهم.
ثانيًا: التفرقة بين العدالة والمساواة؛ لتصحيح مُغالطة تدَّعى ألَّا فرق بينهما، أو بصيغة أخرى تدَّعى أن: تحقيق العدالة مُتوقف على تحقيق المساواة.
والصواب: أن العدل لا يقتضى التسوية، فقد تعدل بين شخصين دُون أن تسوى بينهما؛ لأن العدل هو: وضع الشيء فى مَوضِعه، مع مراعاة الحال.
فإن كان لك -على سبيل المثال- وَلَدَان: أحدهما فى التعليم الثانوى، والآخر فى الابتدائى، هل ستُسوى بينهما فى النفقات مُتغاضيًا عن كثرة حاجات ومتطلبات ابنك الأكبر؟ فإن كان جوابك: أنك ستعطى الأكبر أكثر من أخيه، هل يعنى هذا أنك لن تحقق العدل بينهما؟ أم أن تلبية حاجات كلٍ منهما عدل، وإن لم تسوِّ؟!
ألَا ترى معى أن المساواة بينهما فى النفقات مع تفاوت متطلباتهما من الظلم؟ مما يدل على أن المساواةَ قد تكون عدلًا، وقد تكون هى الظلم بعينه.
ثالثًا: إذا أردنا بيان فلسفة الميراث فى الإسلام -لا سيما ميراث المرأة- لا ينبغى أن نغفل الواقع الذى نزل فيه، وواقع الأمم الأخرى فى القضية نفسها.
فلم يكن للمرأة حق فى الميراث أو امتلاك المال لدى كثير من أصحاب الحضارات القديمة، ولا يختلف الأمر كثيرًا عند بعض الديانات السماوية التى قررت قاعدةً تقول: لا إرث للإناث إلا عند فَقْد الذّكور.
أمَّا عن الواقع الذى نزل فيه الإسلام -وهو المُجتمع الجاهليّ- فلم يكن الميراث فيه إلا للرجل القادر على القتال والضرب بالسيف فقط، ولا إرث للصغار أو النساء، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد كانت المرأة نفسها جزءًا من الميراث، ولوَارِثِها الحق فى الزواج منها، أو عَضْلِها عنده إلى أن تدفع له مبلغًا من المال.
ولِمَ الغَوص فى أعماق التاريخ، ونظرة واحدة على الماضى القريب لأوروبا وغيرها لتُطلِعُنا على واقعٍ مشابه؟! حيث كان الابن الأكبر هو المالك الوحيد لتركة أبيه أو -على الأقل- أكثر الوارثين حظًا، من خلال نظامِ إرثٍ أُطْلِق عليه: (أبوى البكورة).
رابعًا: سَبَقَ الإسلامُ الشرائعَ والقوانين الوضعية إلى إنصاف المرأة، وكفالة حقوقها، وحقَّق لها ذلك من خلال الآتي:
(1) أبطل الإسلام جميع المُمارسات الظالمة ضد المرأة لا سيما ما يخصّ الميراث، والتى ذُكر طرف منها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ..). [النساء: 19].
(2) جعل لها ولاية على المال، وذمة مالية مستقلة، قال تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). [النساء: 32].
(3) أقرَّ لها حق مُباشرة العقود بنفسها كعقود البيع والشراء والرَّهْن والشَّرِكة، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ». أخرجه أبو داود والترمذى وغيرهما.
(4) جعل لها نصيبًا فى تركة المُتوفَّى، قال تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا). [النساء: 7].
وخلاصة الأمر أن الإسلام سوَّى بين الرجل والمرأة فى حقِّ كسب المال، والعمل، والأجرة، والذمة المالية.
أما الثروة المُكتسبة بغير جهد (الميراث) فلها فلسفة أخرى مُستقلة، يُمكننا التَّعَرُّف عليها من خلال النقاط الآتية:
أولًا: القول بأن فقه المواريث فى الإسلام يُعطى الذكر ضعف الأنثى هو قول عارٍ عن الحقيقة، منافٍ للواقع؛ فالمُستقرِأ لأحوال ميراث المرأة فى الإسلام يجد أنها قد ترث -فى بعض الحالات- أكثر من الرجل، أو تساوى الرجل، أو ترث ولا يرث الرجل وذلك فيما يزيد على ثلاثين حالة. وترث نصف ما يرثه الرجل فى أربع حالات فقط.
ثانيًا: إن تفاوت أنصبة الوارثين فى نظامِ الميراثِ الإسلامى لا علاقة له بذكورة أو أنوثة؛ ولكنَّه متعلق بأمور ثلاثة:
(1) درجة القرابة من المُتوفَّى، فكلما كان الشخص أقرب للمتوفَّى كلما زاد نصيبه من الميراث.
(2) موقع الجيل الوارث، فكلما كان الجيل الوارث صغيرًا مستقبلًا للحياة كلما زاد نصيبه أيضًا؛ لهذا كان نصيب ابن المتوفَّى أكبر من نصيب أبِ المتوفَّى ولو كان الابن رضيعًا؛ لأن حاجته إلى المال أكثر.
(3) التكليف والعبء المالي؛ فإذا تساوت درجة القرابة، وموقع الجيل الوارث؛ كان التفاوت فى الأنصبة المستَحَقَّة على قدر تفاوت الأعباء المالية المُلقاة على الوارثين.
فلو مات رجلٌ وترك ابنًا وبنتًا متساويين فى درجة القرابة وموقع الجيل الوارث؛ ورث الابن ضعف البنت.. لماذا؟!
لأنهما غير متساويين فى التكاليف والأعباء المالية؛ فالنفقة واجبة على الرجل، أما المرأة فمالُها ثروة مُدَّخرة، ولا تلزمها النفقة على أحد، ولا نفقتها على نفسها فى الغالب.
والقاعدة الفقهية تقرر: أنَّ الغُنْمَ بالغُرْمِ، أى على قدر المغانم تكون الأعباء والتكاليف من الشرع.
ثالثًا: إن الإسلام لمَّا نزل راعى واقع الناس، واستطاع إصلاحه؛ فحوَّل الأمة الجاهلية إلى أمةٍ تحفظ العُهود، وتُؤدِّى الحقوق، وتُوَرِّث المرأة من خلالِ نظامٍ تَشريعى عَادِلٍ ومُتكاملٍ.
ومثيرٌ للدهشةِ أن نرى كثيرًا من النساء -فى زماننا- لا يستطعن الوصول إلى ميراثهن أو جزء منه فى حين تعلو صحيات مُساواة المرأة بالرجل فى الميراث؛ مما يدل على أن المشكلة التى جاء الإسلام لمعالجتها -ومعالجة غيرها- لا زالت موجودة بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان، وبديلًا عن الالتفات إلى حَلِّها أشارت أصابع الاتهام إلى الإسلام وتشريعاته.
ولا يفوتُنا -فى هذا الصدد- التأكيد على أنَّ حرمان المرأة من إرثها، أو مَنْعَه عنها، أو إجبارها على التنازل عنه مقابل مبلغٍ من المال أو منفعةٍ عن غير طيبِ نفسٍ؛ مُحرمٌ فى الشريعة الإسلامية، فعَنْ أَبِى بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِى الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِى الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْى وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» أخرجه ابن ماجه، ولا شك أن حرمان المرأةِ من إرثها لَمِن قطيعةِ الرحمِ والظلمِ الذى توعَّد رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فاعِلَه بتعجيل العقوبة له فى الدنيا قبل الآخرة.
ولو نظرنا إلى أرقى النظم القانونية -كما يراها أصحابها أو المعجبون بها- المعمولِ بها اليوم؛ لوجدنا أنها قسَّمت الوارثين ورتَّبتهم، وحجبت بعضهم ببعض، وقَصَرت الإرث على طبقة واحدة دون غيرها على حسب كل واقعة.
فعلى سبيل المثال: إن كان للمتوفَّى زوجةٌ وابنٌ -ولو من التَّبَنِّي-؛ ورث ابنُه كلَّ ماله وحُرِمت الزوجة من الميراث.
وإن كان للمتوفَّى أُمٌ وزوجة؛ ورِثَت الزوجةُ وحُرِمَت الأم من الميراث.. إلى غير ذلك من الأمثلة.
فهل حرمان (الأم والأب والزوجة) من الميراث إن كان للمتوفَّى (ابنٌ وبنتٌ) عدالةٌ فى التوريث؟! وهل هذا هو بديل نظام الميراث فى الإسلام؟!
فإن قيل: يكفى أن الابن والبنت سيقتسمان التركة بينهما بالتَّساوي.
قلنا: ما فائدة إعطاء بعض الورثة أنصبة متساوية مع حرمان البعض الآخر؟!
أو بصيغة أخرى: ما فائدة المساواة إنْ لمْ تتحقق العدالة؟! وعلى أى أساس كان العطاء أو المنع؟!
وهل مساواة القانون -المذكور- من فراغ أم أنَّه سَوَّى فى التكاليف والأعباء كذلك؟!
إن الإسلام لمَّا ألزم الرجل بالنفقة على أهل بيته قسَّم الأدوار، ووزع المهمات، وأسّسَ العِشرةَ على الرحمة والمعروف، وجعل قوامتَه مسؤولية، وعلاقتَه بامرأته تكامُلية، وجعل له حقوقًا وعليه واجبات فى بيته وبيت أبيه ولكنَّ مسؤوليته أكبر، وجعل للمرأة حقوقًا وعليها واجبات فى بيت زوجها وبيت أبيها ولكنَّ حقوقها أكثر.
الإسلام كُلٌّ متكاملٌ، لا يُغنى جزء منه عن الآخر، وليس من الإنصاف أن نحكم على نتائجة دون أنْ نطبِّقَه كلَّه، وقضيةُ الميراثِ فيه مُتصلة بكثير من القضايا، ولم يكن هذا المقال -الذى بين أيديكم- إلا محاولة لإلقاء الضوء على بعض هذه الصِّلات؛ حتى نرجع خطوتين إلى الخلف، ونرى الصورةَ كاملة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة