أول ما يلفت انتباهك فى السيرة الذاتية للشاعر الفلسطينى الكبير سميح القاسم، الذى تمر اليوم ذكرى رحيله الرابعة، إذ رحل فى 19 أغسطس 2014، والتى تحمل عنوان "إنها مجرد منفضة" وصدرت عن دار راية للنشر 2011، هو الإهداء "لأبى محمد سميح بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحسين بن محمد بن على بن الحسين بن سعيد بن خير بن محمد بن سلمان بن الحسين بن على بن خير بن محمد بن الحسين". ويقول فى مقدمتها "ليست صورة ذاتية، هى محاولة لترميم صور من الذاكرة، صور قديمة، بالأبيض والأسود".
كما أن المقدمة فى غاية الأهمية وفيها "مكان تبدأ من جغرافيته، ولا زمان تنطلق من إيقاعِهِ، التضاريس وهم يا صديقى، وعقاربُ الساعة خدعةٌ بصرية، تقولُ لى إنَّها الأرض والمجموعة الشمسية، تقول إنها الحياة والعمر والأجل المحتوم، وتقول إنها قطعٌ من أثاث السيرة الذاتية، بحلوها ومرّها وخيرها وشرّها. أجل. بلى. نعم. حقاً. لا. كلا. لن. أبداً، وبين هذه وتلك تخلص إلى نتيجة عنقودية. كالقنبلة العنقودية. تماماً. توقيتات متفاوتة وانفجارات مفاجئة. تتلوها التوابيتُ المعدّة سلفاً والتوابيت الطارئة والأكفان غير المتوقّعة. وبين هذه وتلك تنفذُ إلى جوهرٍ تحسبه عَرَضاً، وإلى عَرَضٍ تخاله جوهراً. ثم تجلسُ إلى ذاتِكَ. تضعُ ساقاً على ساق. تعتصر جبينَكَ بأصابع مُرهقة وتخاطب نفسك بهدوء فاجع: دنيا؟ وحياة؟ هذا هو التعريف الرائج. هذا هو التشخيص المعتمد. هذا هو الحكم المألوف المتعارف عليه.
وقد تقع فى شرك الحزن، وقد تقع على لُبّ الحقيقة وأنت تتمتم فى رصانة البركان وهدوء العاصفة: دنيا؟ وحياة؟ لا بأس عليك، استَطرِدْ يا عزيزى. وستعثر على كيانِكَ المتلاشى، الآيل إلى الانهيار، فى أبديّة مجهولة، ستعثر على عضلات لسانك فى حركتها الأخيرة وهمسها الختامى: "منفضة.. إنها مجرّدُ مِنفضة. لطالما سجّيتُ فيها رمادَ جسدى وغبطتى، قميصى ومحنتى، نارى وجنّتى".
يتضمن الكتاب محطات مختارة من مشوار شاعرنا العربى، ويركز على عام النكبة والجرح الذى لا يزال نازفاً ويطرح أسئلة الحياة والموت التى تزداد إلحاحاً بعد أن وصلت قوات الهاجناه قرية الرامة مسقط رأس الشاعر عام 1948،ماذا سيفعل بنا اليهود إذا بقينا هنا؟ إخواننا النصارى يحميهم الإنجليز ونحن من يحمينا؟ نحن أهل الرّضا والتسليم فهل نتخلَّى عن عقيدتنا؟ ألا يجوز أن تنتهى هذه الحرب باتفاق العرب واليهود وانتهاء المشكلة بسلام؟ لماذا لم نقبل باقتراح على الحسين؟ لماذا لم نرحل إلى الشام، حيث نستطيع تدبير أمورنا؟
هذه الأسئلة وغيرها ظلت عالقة فى الفراغ، هائمة فى فضاء البيت مثل دخان الرجال المكمودين فليس من تجربة أقسى من احتقان الطفولة واحتباس وعيها بما يدور فيها وحولها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة