تولى القضاء فى فترة صعبة، حيث استشراء الظلم وتفحشه الرهيب من جانب القادة الأتراك، الذين تحكموا بشكل بين فى الخلافة العباسية عن طريق القتل ، لكنه لم يخش هؤلاء القادة ووقف فى وجهم ناصرا العدل، يستغل الترهيب فى مواجهة الظالمين من الحكام مستدلا بآيات القرآن الكريم، إنه القاضى احمد بن بديل.
عدل "ابن بديل" وعدم خوفه فى الحق لومة لائم بدت واضحة خلال حكم القائد التركى موسى بن بغا المشهور بظلمه فى الخلافة العباسية ،حيث كانت لموسى بن بغا قطعة أرض في منطقة الري ، واشترى فيها قطعة مجاورة أيضا، وبقى فيها سهم ليتيم لا يمكن شراؤه إلا بموافقة القاضي وهو الولي عليه، وكان القاضي حينئذ أحمد بن بديل، فذهب كاتب موسى إلى "بن بديل" وطلب منه بيع حصة اليتيم ويأخذ له الثمن .
"ابن بديل" امتنع وقال: ما باليتيم حاجة إلى البيع ولا آمن أن أبيع ماله وهو مستغن عنه فيحدث للمال شيء فيضيع عليه، فقال له الكاتب نعطيك في ثمن حصته ضعف قيمتها، فرد عليه قائلا : ما هذا لي بعذر في البيع، فظل الكاتب يلح عليه وهو يمتنع، فضجر الكاتب في النهاية وقال للقاضي: أيها القاضي: إنه موسى بن بغا!! فقال له القاضي كلمته المأثورة : أعزك الله .. إنه الله تبارك وتعالى ، فاستحيا الكاتب أن يراجعه بعدها، ومضى إلى موسى بن بغا فقال له: ما عملت في الأرض؟ فقص عليه القصة فلما سمع ابن بغا قول القاضي:" إنه الله تبارك وتعالى" بكى، وكررها مرارا وتكرارا ثم قال للكاتب: لا تتعرض لهذه الأرض: وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح فإن كانت له حاجة فاقضها .
ومن بين المواقف أيضا، التى تدل على إحراج الحكام بعدله وعلمه أن الخليفة المعتز العباسى بعث إليه يستدعيه فأبطأ عليه، ثم جاء إلى دار الخليفة ودخل إلى الخليفة وهو يلبس نعليه،ـ وهو خلاف البروتوكول في ذلك الوقت، وقال له الحاجب : يا شيخ نعليك، فلم يلتفت إليه، ودخل الباب الثاني فقال الحاجب الثانى: نعليك يا أيها الشيخ، فلم يرد عليه واجتاز الثالث فقال له الحاجب:نعليك، فكان قد وقف أمام الخليفة فألتفت إلى الحاجب وقال : أبالوادي المقدس فاخلع نعلي ؟ !! فدخل على الخليفة بهيئته فرفع الخليفة مجلسه واحتفى به وقال له: أتعبناك أبا جعفر ؟..فقال له : أتعبتني وزعرتني ، فقال: ما أردنا إلا الخير أردنا أن نسمع العلم، فقال له :وتسمع العلم أيضاً؟ ألا جئتني؟ فإن العلم يؤتى ولا يأتي، قال: يعتب علينا أبا جعفر فقال: خلبتني بحسن أدبك، أكتب ما شئت، وأسمعه العلم .
يقول أشرف سعد ، الداعية الإسلامى، إن القاضى "بن بديل" كان شجاعا عارفا لربه المستحضر في كل لمحة ونفس موقفه أمام الله تعالى ، موضحا أن مواقفه القضائية تبين على الخوف من الله تعالى أولا، وعلى المعرفة الواسعة الدقيقة بأحكام الشريعة الإسلامية، ثانيا، مشيرا إلى أن موقفه مع الحاكم الذى أراد أخذ أموال اليتامى فإنه كان موقع الوصي اليتيم، والوصي لا يصح له التصرف في مال اليتيم إلا وفق ما يحقق له المصلحة وهي تنمية المال، وتكثيره، لا المخاطرة، ولا المتاجرة به أو التربح الشخصي منه، وكم من مال يتيم ضاع بسبب تلاعب الأوصياء وتهاونهم في حفظ أموال اليتامى، وقد ارتأى القاضي أحمد بن بديل أن هذا البيع لن يكون في صالح اليتيم وإنما ربما يعود عليه بالضرر العظيم عليه ومن ثم فقد امتنع ولم يخف من الحاكم الظالم، وإنما خاف الله تبارك وتعالى فأخاف الحاكم منه
وأضاف: أما الموقف الثاني لـ"ابن بديل" وهو عدم خلعه الحذاء عند دخوله للحكام ومقارنته المكان بـ" الوادي المقدس طوى"، فقد نختلف حوله من حيث أن اللياقة تقتضي أهمية إتباع واحترام النظم والبروتوكولات الموضوعة للأماكن العامة أو مثل هذا، لكن ربما كان "ابن بديل" يريد أن يلفت النظر بتصرفه هذا إلا ضرورة عدم الإسراف، وعدم الغلو في وضع المراسم والبروتوكولات، ووجوب التزام التبسط والسهولة واليسر في دخول الناس على الحكام، حتى لا يظن الناس أن الحكام يجعلون هيبة القصور وأماكن الحكم كأنها الوادي المقدس طوى، الذي أمر الله تعالى فيه موسى عليه السلام بخلع نعليه تأدبا مع الوادي المقدس الذي شهد تلك المعجزة العظيمة، ولعل القاضي أحمد بن بديل قد استغل أيضا تواضع الحاكم له وتبسطه معه ورفع الكلفة بينه وبينه في ترسيخ هذا الأمر ودعوتهم إلى عدم تعقيد الأمور في دخول الناس على السلاطين والحكام .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة